رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى

لا أعرف لماذا كلما تذكرت اسم عزيز أباظة شعرت بأنني أمام صفحة من صفحات مصر نفسها؛ صفحة مكتوبة بالحبر الذي لا يبهت، وممهورة بختم رجل جمع بين الشعر والسياسة، بين الكلمة والموقف، بين دفء العاطفة وصلابة الوطنية. 

فليس من السهل أن تمر على سيرة رجل عاش في قلب مصر، وتحرك في مؤسساتها، واشتغل في شوارعها ووزاراتها، ثم ترك وراءه إرثا أدبيا وسياسيا يليق ببلد يعرف معنى الحضارة منذ آلاف السنين. 

عزيز أباظة بالنسبة لي ليس مجرد شاعر كبير أو باشا مر بالمناصب، بل هو حالة مصرية أصيلة، تعبر عن تلك الروح التي لا تستسلم للجمود ولا تقبل إلا أن تكون جزءا من صناعة الوجدان العام.

حين أقرأ عنه أو أستعيد قصائده، أشعر أنني أمام راوي حقيقي من رواة الروح المصرية؛ راوي يجمع بين رقة الشعر وفخامة اللغة، وبين عقل إداري محنك يعرف أين يقف ومتى يتحرك. 

رجل ولد في الشرقية، في قلب الريف المصري، حيث تنبت الطيبة جنبا إلى جنب مع الكبرياء، ثم حملته الأيام إلى القاهرة والإسكندرية والمديريات والمحافظات، فصار جزءا من حركة الدولة نفسها، يعرف نبض أهلها ويشعر بالمسؤولية تجاههم.

وعندما أتأمل حياته، أراه ابنا للأسرة الأباظية العريقة، تلك الأسرة التي حفظت لنفسها مكانا واضحا في المجتمع المصري عبر أجيال طويلة. لكن انتماءه لهذه العائلة لم يجعله متعاليا، بل جعله واعيا بدوره، مدركا أن المكانة لا تكون إلا بالفعل والعمل. 

ولهذا لم يتردد بعد دراسته للحقوق في أن يدخل ساحة القضاء والنيابة، متدربا في مكتب وهيب دوس بك، ثم عاملا في النيابة، ثم نائبا في البرلمان، ثم مديرا ومحافظا، حتى أصبح حاكما عسكريا لبورسعيد في لحظة دقيقة من تاريخ الوطن.

لكن ما يدهشني في سيرته ليس المناصب بقدر ما يدهشني قدرته على أن يبقى شاعرا رغم عبء الإدارة ومهام السلطة، فالشاعر بداخل الإنسان لا يصمد عادة أمام الملفات والجلسات الرسمية، لكن عند عزيز أباظة كان الأمر مختلفا. 

ظل الشعر في دمه، لا يغيب مهما ازدحمت أيامه بالمسؤوليات. بل لعل تلك المسؤوليات زادته قربا من الناس، وجعلت شعره أكثر قوة وعمقا واتصالا بالوجدان العام.

وإذا كان أحمد شوقي هو رائد المسرحية الشعرية، فإن عزيز أباظة هو من حمل الراية بعده بثبات، وجعل المسرح الشعري جزءا من الحياة الثقافية في مصر في منتصف القرن العشرين. 

كان يعرف أن المسرح ليس مجرد عرض، بل رسالة، ونافذة تطل منها الأمة على تاريخها وأخلاقها وقيمها، لهذا لم يتردد في أن يستلهم التاريخ العربي والإسلامي، وأن يعيد صياغته في صور شعرية تعيد للمتلقي إحساسه بالفخر والانتماء، لم يكن يكتب للتسلية، بل كان يكتب ليوقظ شيئا دفينا في النفس.

ومن بين كل مسرحياته، تظل "قيس ولبنى" مثالا على تلك الروح التي تجمع بين التراث والتجديد، صحيح أنها تستدعي قصة مجنون ليلى، لكنها تتجاوزها بالمعالجة، وبذلك الحنان الشعري الذي يميز أسلوبه. 

وفي مسرحيات أخرى مثل "العباسة" و"شجرة الدر" و"الناصر" و"غروب الأندلس"، نجد ذلك المزيج بين التاريخ والشعر، بين المحنة الإنسانية والبطولة الوطنية، لغته كانت جزلة، قوية، لا تتنازل عن فخامتها، لكنها في نفس الوقت قريبة من القلب، بسيطة في إحساسها، صادقة في رسالتها.

ولم تكن حياته الشخصية أقل تأثيرا من أعماله، فوفاة زوجته، تلك الصدمة التي تركت ندبة في روحه، كانت سببا في ديوانه "أنات حائرة"، ذلك الديوان الذي يمكن لأي قارئ أن يشعر فيه بوجع الرجل وحبه ووفائه. 

وربما كان هذا الوجدان الحي جزءا من سر قوة شعره؛ لأن الكلمة عندما تخرج من قلب موجوع تكون صادقة، وعندما تكون صادقة تصل بلا استئذان.

ولا أنسى أيضا قصيدته في رثاء جمال عبد الناصر، تلك القصيدة التي تعكس عمق ولائه الوطني وإحساسه بأن مصر فقدت قائدا كان يمثل لها مرحلة كاملة، الكلمات كانت تنزف ألما، لكنها في الوقت نفسه ترفع جثمان القائد إلى مقام يليق بدوره في الوجدان الشعبي.

وما يجعلني أقدر هذا الرجل أكثر أن الدولة المصرية لم تبخل عليه بتكريم يليق به، فمنحته جائزة الدولة التقديرية في الآداب، واحتضنه مجمع اللغة العربية، وأفسحت له مكانا بين رموز الثقافة. 

لكن تكريم الدولة لم يكن أبدا أكبر من التكريم الذي منحه له الناس، حين استقبلوا قصائده ومسرحياته كجزء من وعيهم، وكأنها امتداد لصوت مصر نفسها.

عزيز أباظة، في رأيي الشخصي، واحد من تلك الشخصيات التي تجسد المعنى الحقيقي للمثقف الوطني، المثقف الذي يعيش بين الناس ويشعر بهم، والذي يستخدم موهبته في خدمة الهوية لا في صناعة الزيف. 

رجل أدرك مبكرا أن مصر لا تقوم إلا على جناحين: جناح الدولة التي تعمل، وجناح الثقافة التي تضيء، وقد كان حاضرا في الجناحين معا.

وربما لهذا السبب يظل تأثيره ممتدا حتى اليوم، نحن بحاجة في زمننا الحالي إلى هذا النموذج: نموذج الرجل الذي يجمع بين العلم والوجدان، بين الكفاءة والإحساس، بين صلابة الموقف ورقة الشعر، نحتاج إلى من يرى في مصر ليس مجرد وطن نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا. وعزيز أباظة كان واحدا من هؤلاء.

إنه ليس مجرد اسم في كتب الأدب أو تاريخ المديريات، بل روح من أرواح مصر، روح تذكرنا دائما بأن الكلمة يمكن أن تكون مسؤولية، وأن الفن يمكن أن يكون وطنا، وأن الشاعر يمكن أن يحمل هموم الناس مثلما يحملها السياسي. 

وربما لهذا تحديدا سيظل عزيز أباظة حاضرا في ذاكرة كل من يبحث عن المعنى، وكل من يؤمن بأن مصر كانت ولا تزال أرضا تنبت الرجال الذين يصنعون وجهها المشرق.