حين نتحدث عن عظماء مصر في زمن النهضة والوعي الوطني، يبرز اسم محمد فتح الله بركات باشا كواحد من الرموز التي لا تنسى في تاريخ بلادنا.
ولد فتح الله بركات في الثاني من يناير 1866 في منية المرشد بمركز فوة، محافظة كفر الشيخ، لعائلة بركات التي امتازت بالجد والاجتهاد.
وعلى الرغم من توقف تعليمه عند المرحلة الثانوية، إلا أن عقله الراجح وروحه الوطنية جعلاه يخطو خطوات واسعة نحو النفوذ والتأثير في مجتمعه، حتى صار واحدا من أبرز زعماء الريف المصري، وشخصية قوية كادت أن تجعل منه قائدا وطنيا لا يضاهى لولا الظروف التي حرمته من بعض المناصب في لحظات حساسة من التاريخ.
ما يميز بركات باشا ليس مجرد مكانته الاجتماعية كأحد الأعيان، بل أيضا حيويته السياسية وشجاعته الوطنية، فقد كان من أوائل أعضاء الحركة الوطنية المصرية ومن مؤسسي حزب الوفد، وكان له حضور بارز في العمل السياسي منذ بدايات القرن العشرين.
وفي خضم الثورة العظيمة عام 1919، لم يتردد بركات في قيادة الطلاب وتحفيزهم على المشاركة الفاعلة، رغم التحذيرات الشديدة من السلطات البريطانية، مؤكدا أن وطنه فوق كل اعتبار وأن الحرية لا تنتزع إلا بالإصرار والشجاعة.
ارتباطه العائلي بسعد زغلول، إما كابن شقيقة أو ابن خال بحسب الروايات، أضفى عليه ثقلا سياسيا مهما داخل الوفد، ولكنه لم يعتمد على هذا الرابط وحده، بل أثبت أنه قائد حقيقي بعقله ومبادئه.
فقد شارك بفاعلية في لجنة الوفد المركزية التي أنشئت لإدارة شؤون الحركة الوطنية في غياب زعماء الوفد، وظهر حضوره القوي عندما تم نفيه مع سعد زغلول إلى جزيرة سيشل في عام 1921 بعد أن اعتقلت السلطات البريطانية قيادات الوفد.
كان هذا النفي اختبارا لشخصية بركات، ولكنه أثبت خلالها أنه قادر على الصمود والثبات، وأن الوطنية ليست شعارات ترفع في الأوقات السهلة، بل مواقف تختبر في الشدائد.
بعد عودة الوفد إلى مصر وتوليه الحكم، لم يتأخر بركات عن أداء دوره الوطني، فقد عين وزيرا للزراعة، ثم وزيرا للداخلية، حيث ترك بصمة لا تمحى من خلال تحسين مستوى معيشة الفلاحين ودعم الجمعيات الزراعية والصناعات الزراعية.
ولم يكتف بذلك، بل أقدم على أول خطوة جريئة في تاريخ وزارة الداخلية حين جعل جميع مكاتبات الوزارة باللغة العربية، مؤكدا أن لغة الوطن وأصالته يجب أن تكون محور جميع الأعمال الإدارية.
وفي مساره التشريعي، ساهم في صياغة قانون التعاون الزراعي وأقر قانون زراعة ثلث الزمام، لما له من أثر اقتصادي وزراعي بالغ الأهمية، مؤكدا أن اهتمامه بالريف والفلاح لم يكن مجرد واجب شكلي، بل إيمانا راسخا بأن تقدم مصر يبدأ من أرضها ومن كادحيها.
كان فتح الله بركات باشا شخصا يجمع بين الحكمة والروح الوطنية الحماسية، فهو الذي اعتاد على أداء صلاة التراويح في الجامع الأزهر، ومن ثم يخطب للناس ويحثهم على الوحدة الوطنية ورفض الاستسلام للاحتلال.
هذه الروح الوطنية لم تكن مجرد شعارات، بل ممارسة حية في حياته اليومية، وهذا ما جعله يحجز لنفسه مكانا في قلب الناس، ويجعله رمزا وطنيا يحتذى به في الريف المصري وخارجه.
لقد كان خطيبا مفوها، قادرا على إلهام الآخرين، وقد ظهر ذلك جليا في احتفالات الوفد والمؤتمرات الحاشدة، حين كان يمدح سعد زغلول ويدعو المصريين إلى التمسك بحقوقهم والدفاع عن وطنهم بشجاعة ووفاء.
ولعل ما يميز شخصية بركات أيضا هو مزيج من القوة والإنسانية، فقد وصفه زملاؤه في العمل السياسي بأنه رجل يجمع بين صلابة الموقف ودفء الروح، وأنه رغم الخلافات السياسية التي عرفتها البلاد، كان دائما يسعى للتوفيق بين الأطراف المختلفة، مثل دوره في تقريب وجهات النظر بين الوفد والأحرار الدستوريين، كان يسعى دوما لوحدة الوطن، وفوق كل اعتبار، هذا ما يجعله شخصية وطنية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
إن إرث فتح الله بركات باشا ليس مجرد مناصب وزارية أو قوانين أصدرها، بل هو نموذج حي للوطنية الحقيقية: رجل بدأ من التعليم المحلي المحدود، واجه الاستعمار بشجاعة، وناضل من أجل رفعة بلده وكرامة شعبه، وكان مثالا على أن العظمة الوطنية لا تقاس بالثروة أو بالجاه، بل بالإخلاص والجهد والفكر الثاقب.
وعندما ننظر إلى إنجازاته في الريف وفي مجلس النواب وفي الوزارات المختلفة، نجد أن كل خطوة قام بها كانت جزءا من مشروع أكبر: مشروع مصر الحرة القوية، مصر التي يحكمها القانون وتحتكم إلى عقلائها وشرفائها.
وفي ختام حياته، ورغم المرض والشيب، لم يفقد بركات باشا حماسه الوطني ولا إخلاصه لمصر، توفي في أول يناير 1933، تاركا وراءه إرثا كبيرا من المبادئ والقيم والعمل الوطني الجاد، وإلهاما لكل من يرغب في خدمة وطنه بروح وطنية صادقة.
محمد فتح الله بركات باشا، الرجل الذي جمع بين الفكر والعمل، بين الشجاعة والحنان الوطني، سيظل رمزا خالدا للوفاء الوطني والإخلاص للريف المصري وللوطن كله.
إن الحديث عن فتح الله بركات باشا ليس مجرد استعراض لتاريخ شخصية عظيمة، بل هو دعوة لكل مصري أن يستلهم من سيرته الوطنية القوة، وأن يعي أن مصر تحتاج دائما إلى رجال صادقين، ليسوا مجرد زعماء، بل قادة حقيقيين يضعون مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ويخدمون شعبهم بكل إخلاص وشجاعة، وهكذا يظل فتح الله بركات باشا مثالا حيا على أن الوطنية الحقيقية لا تموت، وأن الأبطال يعيشون في وجدان الأمة إلى الأبد.