رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى

وليم مكرم جرجس ميخائيل عبيد، المعروف بمكرم باشا عبيد، كان أكثر من مجرد سياسي أو محام أو وزير في مصر؛ كان روحا وطنية نابضة، ومثالا للتمسك بالقيم والأخلاق والعدالة في زمن صعب، زمن كان فيه الوطن بحاجة إلى رجال يضعون المصلحة العامة فوق أي اعتبار شخصي أو حزبي. 

ولد مكرم عبيد في 25 أكتوبر 1889 في قنا بصعيد مصر لعائلة قبطية معروفة، وقد نشأ في بيئة علمية وثقافية مكنته من أن يرى الحياة من منظور واسع، ومنحته أسسا صلبة لفهم القانون والعدالة وحقوق الإنسان، رحل عن عالمنا في 5 يونيو 1961، تاركا إرثا فكرا ووطنيا لا يمكن تجاهله، ومثالا على الشجاعة الفكرية والسياسية.

درس مكرم عبيد القانون في جامعة أوكسفورد، وحصل على ما يعادل درجة الدكتوراه عام 1912، ثم أكمل دراسته في ليون بفرنسا، فتقن اللغة والقانون معا، وجعل منه ذلك خطيبا مفوها قادرا على مخاطبة الجماهير بلغتها وعقلها. 

كانت بداياته العملية في الصحافة والقضاء، وعمل سكرتيرا للوقائع المصرية، ثم سكرتيرا خاصا للمستشار الإنجليزي أثناء الحرب العالمية الأولى، لكن حبه للوطن ورفضه للظلم دفعاه للكتابة ضد الاحتلال، حتى تعرض للنفي، كان مكرم عبيد منذ البداية على قناعة أن الوطن فوق كل اعتبار، وأن الحرية والقانون هما الركيزتان الأساسيتان لأي مجتمع يسعى للتقدم.

انضم مكرم عبيد إلى حزب الوفد عام 1919، وكان من أوائل من ساهموا في تشكيل فكر الحزب الوطني، مدافعا عن الحريات العامة، وناشطا في الخارج لنصرة قضية مصر أمام العالم. 

تولى فيما بعد عدة مناصب مهمة، منها وزير المواصلات، ثم وزير المالية في عدة حكومات، وأصبح سكرتيرا عاما لحزب الوفد، ورغم المناصب الكبيرة، لم ينس مبادئه؛ فقد كان صوت الحق داخل الحزب، وصاحب المواقف التي لم ترض الجميع، لكنها أرست دعائم النزاهة والشفافية.

مكرم عبيد لم يكن مجرد سياسي، بل كان صاحب رؤية إصلاحية، أسس النقابات العمالية، وضع الحد الأدنى للأجور، وساهم في توفير التأمين الاجتماعي للعمال، وأدخل نظام الضريبة التصاعدية، ووضع نظام التسليف العقاري الوطني. 

كل هذه الإجراءات لم تأت لمجرد إدارة شؤون الدولة، بل كانت جزءا من مشروعه الوطني لتأسيس دولة قانون، تعلي فيها قيم العدالة والمساواة، وتضع المواطن في قلب السياسة.

لكن مسيرة مكرم عبيد لم تكن خالية من الصراعات، بعد خلافات داخل الوفد، انشق لتشكيل الكتلة الوفدية، وقدم ما عرف بال«الكتاب الأسود» الذي كشف فيه عن مخالفات مالية في حزب الوفد، مطالبا بالمحاسبة والشفافية. 

ورغم أن هذه الخطوة كلفته عزله من مجلس النواب واعتقاله، إلا أنها أرست له مكانة أخلاقية كبيرة في أعين المصريين، فهو الذي لم يساوم على مبادئه حتى في مواجهة السلطة، واختار العزلة بدل أن يتخلى عن قيمه.

مكرم عبيد كان أيضا مفكرا وخطيبا فذا، يتمتع ببلاغة قانونية وحنكة سياسية، جمع بين عمق الفكر وروح الوطنية، وكان يسعى دائما إلى دمج الدين بالعمل الوطني، فتأتي مقولته الشهيرة: «الدين لله، والوطن للجميع»، لتلخص فلسفته التي لم تنحز لطائفة على حساب أخرى، بل ارتكزت على مبدأ المواطنة الجامعة والمساواة بين الجميع، هذه الرؤية جعلت منه شخصية وطنية جامعة، قادرة على تجاوز الانقسامات الطائفية والسياسية، وترك بصمة في تاريخ مصر الحديث.

من خلال كل ما قدمه، ظل مكرم عبيد مؤمنا بحرية الرأي والصحافة والاجتماع، ومقاوما لأي محاولة للحد من هذه الحريات، سواء من داخل السلطة أو من أي جهة أخرى. 

كان يرى أن القيد على الحريات هو مدخل للاستبداد، وأن حماية القانون والدستور هي الطريق الوحيد لحماية الوطن والمواطنين على حد سواء. 

في كل مكان تولاه، سواء في البرلمان أو الوزارات أو في المحاماة، ظل متمسكا بمبادئه، محافظا على استقلاله الفكري، ورافضا المساومات التي قد تضعف المصلحة العامة.

حتى في علاقاته مع القوى السياسية الأخرى، مثل جماعة الإخوان المسلمين، استطاع أن يبني جسور الاحترام والتفاهم، فكان يحترم حسن البنا ويقدر رجاحة عقله، ويعطي للأفكار الدينية مكانها الطبيعي دون أن يهدد استقلال الدولة أو مبادئه الوطنية، وقد ظهر هذا الاحترام أيضا في مواقفه الإنسانية تجاه الجميع، بعيدا عن أي حسابات حزبية ضيقة.

حين نتحدث عن مكرم عبيد، فإننا نتحدث عن رجل جسد معنى الوطنية الحقيقية، ليس بمواقفه السياسية فقط، بل بتفانيه في خدمة القانون، وإرساء قيم العدالة الاجتماعية، والدفاع عن كل مظلوم. 

لقد كان نموذجا للقامة الوطنية الليبرالية، التي سعت إلى بناء دولة القانون والمواطنة قبل أن تتغير خريطة السياسة في مصر إلى الأبد، رحيله في 5 يونيو 1961 لم يكن نهاية حضوره، فإرثه ما زال حاضرا في شارع باسمه في مدينة نصر، وفي ذاكرة كل مصري يقدر النبل والمبادئ.

مكرم عبيد لم يكن مجرد شخصية سياسية، بل كان رمزا للكرامة الوطنية، وصوتا للضمير العام، ومثالا على أن الوطنية لا تقاس بالمناصب أو السلطة، بل بالصدق مع النفس والوطن. 

إنه الرجل الذي عاش مخلصا لمصر، فظل في قلوب المصريين حيا، كما لو أن روحه لم تغادر وطنه، وحلمه بمصر حرة عادلة لا يزال حاضرا في كل خطاب وقرار يسعى فيه المصريون للعدل والحرية.