حكاوى
هل ازدهرت حركة الفن والأدب خلال فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.. هناك رأى يعلن ان حركة الإبداع والفن بعد ثورة 52 بسبب التيار الماركسى والناصرى واليسارى الذى بدأ يتشكل بشكل فج من منتصف الخمسينيات، نرى التيار الماركسى وكان هدفه هو خدمة النظام الجديد من خلال المسرح الاجتماعى والسياسى الجديد ومن دار الأزبكية والفرق المصرية إلى الخطاب الشيوعى الاشتراكى الموجه، ما قتل الفن الراقى الذى بلا غرض سياسى وركز على دعم مفاهيم الاشتراكية والزعامة.
وفى تسارع كبير أخذت قيادة ثورة يوليو منهجًا لهدم أى ابداع حر، فأغلقت كثير من المسارح أبوابها وتحولت إلى السينما تعرض أفلام قطاع السينما الحكومى وانتهت الفرق المسرحية الخاصة التى شكلت وجدان الثقافة المصرية من قبل، ولم تصمد أمام مسارح الدولة ومسارح التليفزيون التى قامت بها الثورة وما زاد من الهم ان المسرح القومى شارك فى محاكم التفتيش للفنانين والكتاب والأدباء غير الاشتراكيين أو الماركسيين، فساهم فى قمع اعمالهم وهكذا تحول المسرح من الابداع والنقد إلى ناشر لأفكار الاشتراكية والزعامة والميثاق وتشويه مفهوم العدل الاجتماعى، وانتهت تمامًا الصحافة الخاصة وحلت بدلا منها صحافة يرأسها أفراد من مجلس قيادة الثورة أو صحافيون ولاؤهم الكامل للدولة ووقف الجميع اسرى افق النظام فى كتاباتهم، فالرؤية الأهلية رؤية مجتمع الدولة الناصرية، إذ تم تألية الدولة واطفاء الديمومة على النظام وتعرض المسرح إلى عالم الكابوس الذى لا مفر منه ولا بديل عنه كابوس عبر رؤية المسرح الحائر بين الإبداع والقمع.
وهنا بدأ التأثير السياسى لحركة الابداع ما بعد ثورة 52، وفى هذا الشكل الابداعى دعونا نستعرض أولا مثالًا لواحد من أساطير الفن العربى وهو محمد عبدالوهاب الذى تغنى عبدالوهاب فى ابداعاته فى قصر الأمير محمد على أولا ودعى للغناء فى سرايا عابدين وكان يطلق عليه قبل الثورة مطرب الملوك والأمراء، وقدم عبدالوهاب أكثر من 1800 أغنية قصيرة وطويلة و68 لحنا وطنيًا قبل وبعد الثورة حتى حمل رتبة اللواء لقيادته الموسيقى العسكرية وإعادة توزيع لحن سيد درويش ليكون السلام الوطنى لمصر. ان محمد عبدالوهاب كان أداة للتأثير السياسى والاجتماعى والثقافى فى العهدين وامتد تأثيره إلى البلدان العربية التى كرمته ونجح محمد عبدالوهاب فى ان يغير من آليته الفنية ليبقى فى حقبة زمنية امتدت من عهد الخديو عباس حتى عهد الرئيس حسنى مبارك، وحملت الحان عبدالوهاب واعماله الابداعية تنظيرًا للحالة السياسية التى تعيشها مصر فى كل حقبة، فمن الغناء للملكية والملك إلى أغانى الثورة والنضال والمد الاشتراكى، ووظف فى سبيل ذلك أصواتًا أضحت من علامات الثورة واحداث الستينيات مثل عبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفايدة كامل، وأدخل أم كلثوم إلى زمرة فنانى النظام الناصرى فلحن لها على باب مصر والتى ختمت باسم جمال عبدالناصر.
ولم تستمر القوة الناعمة لتمارس ابداعها ونقدها الفنى بحرية، فقد تعرض أغلبية رجال الأدب من مختلف التيارات والانتماءات السياسية والفكرية والدينية إلى الاعتقال فى عهد عبدالناصر، وفى ذلك يتذكر دكتور حسين مؤنس، عصف ناصر دون رحمة بكل من كبار الصحفيين وعلى رأسهم محمود أبوالفتح وأحمد أبوالفتح ومصطفى أمين وعلى أمين.
ويرى الأديب العملاق توفيق الحكيم ان المصريين جميعا بمن فيهم المثقفون والمبدعون كانوا فى تلك الفترة مجردين من الارادة وحرية الاختيار، وقد فقدوا الامرين معا، لانهم فقدوا الوعى ذلك ان ساحرًا فردًا اغرقنا فى النوم واستطاع خداع حكامنا وسار بنا فى مسارات لا ترضى عنها الأرض ولا السماء، ونحن لم نسترد وعينا إلا بعد ان مات الساحر فى 28 سنة تعبر 70 يقصد توفيق الحكيم هنا جمال عبدالناصر.
وان كان الحكيم نفسه اخرج اجمل ابداعاته فى زمن الثورة الا انه على عكس غيره من الأدباء والنقاد، عمد إلى النقد الضمنى للحاكم والحكومة فى شكل مسرحى رمزى فريد، لعل قيادة الحكم فى مصر لم تدركه فى مسرحية السلطان الحائر، فيها نقد مستتر للرئيس الراحل عبدالناصر ورغم تعرض الحكيم لحملة نقد شديدة من السلطة فإن عبدالناصر استثناه من حملات التنكيل ومنحه عام 58 وساما وجائزة الدولة التقديرية عام 60 وكان الحكيم فى عام 66 ينتقد نظام الدولة ويدافع عن حرية الابداع والنقد والحرية والديمقراطية، أما مثقفو الهامش المعارض فقد تعرضوا للتنكيل ووجد فى رأية ان معادلة الحداثة التى بدأت مع رفاعة الطهطاوى فى خدمة الدولة قائمة حتى تجلت فى عهد ناصر وسقطت سقوطها المدوى مع نكسة 1967. ان نقاد ومبدعى هذه الفترة تربوا فكريًا وثقافيًا قبل 52 وبلغوا مرحلة النضج فى حقبة الخمسينيات والستينيات، ولذلك أدلو بدلوهم فى عملية الابداع والنقد بشكل واضح.