لا يمكن الزعم بإمكانية قيام حكم ديمقراطى دون وجود حقيقى وفعال لأحزاب سياسية قوية مالكة لأسباب نجاحها فى النهوض بمسؤولياتها الوطنية الهائلة التى اكتسبتها عبر مئات السنين كانت لها فيها اليد العليا لترسيخ وتعميق أسس العملية الديمقراطية.
من هنا لا أظنه جادًا فى سعيه الوطنى، ولا مُستحقًا للرهان عليه بأى حال من الأحوال، كل من يسعى إلى تهيش دور الأحزاب، والتقليل من شأنها داخل أوساط الرأى العام، وقد سقطت بالفعل كل محاولات «ابتكار» بدائل للأحزاب السياسية، ويشهد التاريخ أن محاولات بالفعل تمت فى هذا الاتجاه باءت كلها بالفشل المُخزى لأصحابها. وقد اتجهوا إلى ذلك إما عن جهل، أو خشية ما تفرزه الحياة الحزبية الصحيحة من صحوة فى الوعى يمكن معها بسهولة كشف الزيف والتشويه وسياسات احتكار السلطة، بل واحتكار الحقائق، واحتقار إرادة الشعوب، بوهم كبير من حيازة الوطنية على نحو حصرى.
أقول هذا لا من باب التمجيد فى مفهوم الأحزاب باعتبارى عضوًا فى حزب الوفد منذ نحو أربعين عامًا، بل أقوله لكى ألقى بأعباء ثقيلة على الأحزاب السياسية عساها تزيد من جهودها لمحو كل أثر سلبى لسياسات قديمة لطالما استهدفت إضعاف الأحزاب السياسية، وإخراجها من دائرة اهتمام الناس، وإبعادها عن القيام بمسؤولياتها الوطنية المتعاظمة.
لذلك فإن جهدًا فائقًا ينبغى أن تنهض به أحزابنا بغرض تصحيح موقعها فى الوعى الجمعى، بما تملكه من خبرات وطنية متنوعة يمكن أن تقدم بدائل حقيقية أمام الحكومة، فضلًا عن إظهار السلبيات، وإبراز الإيجابيات بما يجعل منها سندًا حقيقيًا للدولة بشكل فعال، لا مجرد شعارات جوفاء لا طائل منها.
فى هذا السياق أتمنى أن تتمكن أحزابنا السياسية الكبرى، ومن بينها الوفد، من لم شمل الأحزاب الصغيرة، واحتوائها بما فيها كوادر وطنية ناجحة، فتفسح لها الطريق لتتبوأ موقعًا يتيح لها المشاركة بفعالية فى العمل الحزبى، وفى حياتنا السياسية بشكل عام.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن أكثر من مائة حزب فى مصر لا يدرك المواطن عنها حتى أسماءها، لا يمكن أن تفيد الوطن؛ ومن ثم أدعو إلى بذل المزيد من الجهود الحزبية لإعادة تنظيم حياتنا الحزبية وفق ما تُمليه التجارب الدولية الناجحة من تيارات حزبية ثلاثية تعبر بصدق عن التوجهات السياسية الأصيلة، يمين ووسط ويسار، بتفريعاتها البسيطة التى تتيح منافسة حقيقية داخل كل تيار، لكن مع الالتزام بالقواسم المشتركة بين أعضاء التيار السياسى بما يعبر عن قناعات سياسية حقيقية، لا مجرد وسيلة للارتزاق، أو الوجاهة الاجتماعية، ولا أقول التربح أو المزايدة على الآخرين.
كل الأمل أن تنجح أحزابنا فى هذه المهمة الوطنية الهائلة، بمنتهى التجرد، والإخلاص، أخذًا فى الاعتبار تفاصيل التجارب الدولية الناجحة، مع الاعتبار لخصوصية المجتمع المصرى، وما تتميز به حياتنا السياسية من ظروف تاريخية واجتماعية ذات طبيعة خاصة تبلورها ثقافتنا الشعبية.
والواقع أن ما أُنادى به من تنظيم للصفوف الحزبية لا يمكن أن يأتى من خارج الأحزاب ذاتها، ولا أن يتم بدوافع شخصية، ولا أن يتحقق لأهداف غير المصلحة الوطنية. وغير ذلك سيبقى المواطن لا علم له إلا بعدد قليل جدًا من الأحزاب، على رأسها الوفد الذى يشكل علامة تاريخية فارقة كحصن أمين على الحركة الوطنية.
على هذا النحو يمكن أن يتجسد، حقًا وصدقًا، دعمنا للدولة الوطنية التى أنتجتها ثورة الخامس والعشرين من يناير، وصححت مسارها ثورة الثلاثين من يونيو. فهل نفعل أم نواصل الزعم والزيف والكذب؟!