تأملات
سألنى صديق ممن يتابع ما أكتبه من مقالات، بغض النظر عما إذا كان واحداً من بين قلة أم كثرة مهتمة، عن سبب توقفى عن الكتابة عن سد النهضة، رغم أننى كنت قد أسهبت فى تناول الموضوع على مدار سنوات؟ وكان مصدر دهشته أننى كتبت ما كتبت فى الفترة التى كان الحديث فيها عن السد خافتاً، والأحداث خاملة، فيما أننى لم أتطرق للموضوع فى الفترة التى شهد فيها زخماً فى التطورات تتطلب تقديم تصورات من قبل كل مهتم بالموضوع وليس الصمت.
عندما تأملت ما ذكره الصديق وجدت أنه على صواب، حيث تناولت القضية فى أكثر من 15 مقالاً على مدار ست سنوات بدأتها بمقال بعنوان «لغز سد النهضة» أشرت خلاله إلى أن تطورات الوضع بخصوص مفاوضات السد تشير إلى وجود شىء يصعب فهمه لدى قطاع كبير من المصريين. وربما كان الختام مع مفاوضات واشنطن التى بشرت بقرب إغلاق ملف المفاوضات والتوصل إلى اتفاق كان مزمعاً توقيعه نهاية فبراير من العام الجارى، وقتها كتبت ما يشير إلى أنه ربما يكون ختام الأمور مسكاً ونهاية سعيدة لقضية السد، الأمل الذى أضاعه الموقف الإثيوبى.
سألت نفسى: لماذا هذا الصمت– الشخصى– أو العزوف عن الكتابة؟ هل هو زهق من ترديد آراء وكلام لم نخرج من ترديده على مدى سنوات؟ هل نجح المفاوض الإثيوبى فى إقناعنا بعبثية الكتابة، وعدم جدوى التفاوض حتى إننا مللنا ولم يعد شخص مثلى لديه ما يكتبه؟ عندما تصورت أن هذا الرأى ربما يعبر عما قد يصفه البعض بـ«قصر الذيل» تأملت كتابة آخرين، ووجدتها تدور فى الفلك ذاته ولم تراوح مكانها فى تكرار ممل لما تم تقديمه من قبل مع إعادة إنتاج فى شكل جديد، أو بمعنى أصح تدور فى حلقة مفرغة أو دائرة مغلقة، لأن المضمون الرئيسى للقضية ليس به اختراق ذو قيمة.. إثيوبيا تمارس سياسة التعنت الطويل، ومصر تمارس سياسة النفس الطويل.
جاءتنى إجابة بينى وبين نفسى بأن الأمر ربما يرجع إلى ما بدا فى لحظة من اللحظات من وجود ضوء ساطع فى نهاية النفق، بما أبدته مصر من موقف بدا للكثيرين مغايراً، موقف تعبر من خلاله عن أن مخزون الصبر لديها قد نفد. فعندما أراجع ما كتبته أشعر بأنه كان يتضمن قدراً من القلق والخوف ربما يبدو للبعض خوفاً مبالغاً فيه أو غير طبيعى، وهو خوف ربما نبع من عدم إدراك واستيعاب حكمة السياسة المصرية فى ممارسة أكبر قدر من ضبط النفس، خوف ربما عبر عن قصور نظر أو عن العكس، فليس فى السلوك الإنسانى ما يمكن الحسم بمساره، وإنما الأعمال بخواتيمها، ونحن لم نصل بعد لهذه الخواتيم!
بدا لى أن هناك نوعاً من التطابق فى نظرى ونظر الكثيرين غيرى للأمر مع السياسة العامة، وهو الأمر الذى من المؤكد أنه كان مثار ارتياح لى ولغيرى من ملايين المصريين الذين كانوا يضعون أيديهم على قلوبهم من أن يخرج الأمر على السيطرة لظروف قد تتجاوز صانع السياسة، على غرار ما نشهده الآن مثل انشغاله فى قضية أخرى مثل قضية المواجهة فى ليبيا، التى قد تفرض عليه أولويات تتراجع معها أهمية قضية السد! عزز هذا التصور الموقف المصرى الرائع فى مجلس الأمن الذى عبرت عنه كلمة وزير الخارجية المصرى سامح شكرى فى كلمات لا بد أن تثلج صدر كل مصرى فى التعبير عن أهمية حل قضية السد باعتبار أن الحق فى البقاء ليس قضية اختيار للمصريين!
كان التناغم بين أداء الخارجية المصرية ووزارة الرى يبعث على الارتياح والفخر، ويؤكد المقولة التى أشار إليها محمد عبدالعاطى وزير الرى حين ذكر فى حوار تليفزيونى له فى معرض الحديث عن سد النهضة بأن مصر «دولة».. ودولة لها وزنها.. كان هذا التناغم الذى تبلور فى موقف مصرى.. ولا أروع.. سبباً فى حالة من التواكل باعتبار أن سياسة الصراخ والعويل من قبل العامة من الناس بمن فيهم من يتصدرون مهمة الكتابة لم تعد لها جدوى أو قيمة، وباعتبار أن النيل له دولة تحميه وتسلك فى ذلك السبل التى ربما لا يدركها أصحاب العقول القاصرة وأنا منهم.
ربما عزز من ذلك أن المفاوضات الأخيرة التى تم استئنافها تركزت على الجوانب الفنية والقانونية التى لا ناقة لى– أو لكم– فيها ولا جمل، ما يدعو إلى التخلى عن سياسة أو مبادرات «جنرالات المقاهى» والتطوع بالفتيا «عمال على بطال» وترك الأمور لأصحابها من المتخصصين، خاصة أن هذه المفاوضات تدور على قاعدة أن مصر لن تفرط فى قطرة ماء من مياه النيل، ما يعنى أنه لا مجال للمزايدة من الخصوم المتربصين بالوطن، ولا مجال كذلك للقلق من الشرفاء الذين ربما قد يكون لهم زاوية أخرى فى النظر للأمور.
صحيح أن مصر صامدة صمود الجبال، ولم تتزحزح عن موقفها قيد أنملة، إلا أن ما تسعى له إثيوبيا من فرض حقائق جديدة على الأرض بالملء الواقعى للسد جعل «الفأر يلعب فى عبى»، واستدعى منى أن أطرح عليكم هذه الخواطر، حمى الله مصر من كل سوء.