تأملات
أعترف بأننى كنت، وربما ما زلت، أوقن أن السياسة، سواء كانت داخلية أم خارجية لا يمكن أن ترتبط فى تعاطيها انطلاقًا من وازع أخلاقى، ذلك أن الممارسات السياسية بطبيعتها والتى يحكمها الصراع والتنافس للوصول إلى ما يراه المنخرطون فيها الأفضل لهم أو لأوطانهم يصعب أن يكون أحد مكوناتها البعد المتعلق بالأخلاق. تؤكد ذلك تجارب الأمم والشعوب بدءًا من القدماء المصريين مرورا بالإمبراطورية الرومانية، وليس انتهاءً بما نشهده فى عصرنا الحديث. صحيح أنه ربما يكون مكيافيللى بما أورده فى كتابه «الأمير» من نصائح قد أجهز بالضربة القاضية على أى ارتباط بين السياسة والأخلاق على نحو قد يكون أبديًا، إلا أن الانفصال بينهما كان، فى نظر الكثيرين، من طبائع الأشياء.
غير أن مسلسلًا أمريكيًا أتابعه هذه الأيام، يحاول أن يغير رؤيتى، كمشاهد كما غيرى ممن يتابعونه، من هذه القضية، بل ويسعى لأن يقدم أخرى مغايرة مؤداها أن السياسة والأخلاق صنوان لا يفترقان. المسلسل اسمه الخليفة المرشح، أو كما أفضل تسميته (مرشح الظل designated survivor) وكنت قد كتبت عنه من قبل متناولًا جانبًا منه تحت عنوان «مأساة رئيس أمريكى مشكوك فى شرعيته». المسلسل يحكى عن رئيس أمريكى وصل إلى منصبه بحكم الصدفة وحدها إثر انفجار لمبنى الكونجرس ما أدى إلى مصرع كل المسئولين الأمريكيين دون ذلك الشخص الذى يشغل منصب وزير الإسكان ولم يكن حاضرًا اجتماع الكونجرس خلال لحظة الانفجار.
يقدم لنا المسلسل ذلك الرئيس فى صورة شخص طيب نبيل كل همه فى الحياة أن يعيش حياة هادئة هنية مع أسرته، كان من بين أحلامه حسب ميثاق قطعه مع أحد أصدقائه فى مرحلة البراءة أن يغير العالم، ما يشير إلى حجم المأزق الذى يعيشه على وقع التحول الجديد بعد أن أصبح قابعًا فى قلب البيت الأبيض فى كرسى الرئاسة بما يتطلبه من مكر ودهاء وخبث ومداهنة فى مواجهة التطورات المعقدة التى يواجهها أى رئيس أمريكى أو حتى غير أمريكى.
غير أن ذلك الرئيس- الأمريكى- الذى هو من نسج الخيال، يبهرنا بما يقدمه من مواقف تنطلق كلها من اعتبارات أخلاقية.. حتى ليخيل إليك أن من يجلس على كرسى الرئاسة ليس سوى نبى أو ملاك أرسله الله من السماء للتعامل مع البشر الأشرار. ليست تلك هى المشكلة أو مصدر الدهشة فقط، وإنما الغرابة فى أنه ينجح فى ذلك أيما نجاح! حتى أن رئيسة مجلس النواب التى كانت من بين الناجين وتعتبره رئيسًا ضعيفًا ما أدى إلى طمعها فى أن تحل محله تبدأ فى تغيير نظرتها له والسعى لأن تنال شرف أن تكون إلى جانبه ولو من خلال منصب نائب الرئيس!
لو أنك شرقى النشأة أو الهوى أو التفكير لذهب ظنك أو خيالك- الذى قد يراه البعض خيالًا مريضًا- إلى أن هذا الرئيس ليس سوى رئيس «هزؤ» بشكل قد يعزز لديك فكرة ضعفه، وإن كانت الحقيقة أن ذلك ليس سوى أحد مظاهر الديمقراطية الأمريكية فى المسلسل- وإلى حد كبير فى الواقع! فمستشاره للأمن القومى «يشد» عليه، مشيرًا دون خجل أو وجل إلى خطئه فى تقدير الموقف، وعضو الكونجرس لا يأبه برفض طلب للرئيس لأن الناخبين قد يعاقبونه على مثل هذه الاستجابة التى لا تتوافق مع أهدافهم، فيما المتحدث باسم البيت الأبيض لا يبالى بأن يكون جالسًا فى مواجهة رئيسه واضعًا قدمًا على قدم!
فى أحد المواقف حينما يكون الرئيس أمام خيار أن يبلغ الكونجرس بشأن عملية مطاردة لأحد الإرهابيين أو عدم إبلاغه يرد على مستشاره بأنه يقوم بذلك ليس لحاجته إلى غطاء سياسى- كان مطلوبًا فى مواجهة الأزمات المتلاحقة التى تواجهه- وإنما لأن هذه ليست حكومة شخص واحد! فى مواجهته لأزمة مع الجارة المكسيك، وحينما يطلب منه استضافة سيدة قتلت القوات الأمريكية زوجها لتحسين صورته يقرر التراجع فى اللحظة الأخيرة بمنطق عدم استغلال مأساة إنسانية من أجل مكاسب سياسية.
وحينما ينقل سيناتور عن الرئيس اتهامه للأمريكيين بأنهم مغفلون، يروح الرئيس رغم ما سببه ذلك من أزمة له يعترف على الملأ بذلك التوصيف الذى يرى أنه تم إخراجه عن سياقه مقدمًا الحجج التى دعته إلى ذلك ما يكسبه المزيد من التأييد.
على هذا النحو يمكنك أن تعيش مع ذلك الرئيس الأخلاقى ضمن المسلسل الذى يمضى على وتيرة تقديم أزمة أو أكثر فى كل حلقة والتعامل معها من إطار أخلاقيات ذلك الحالم- حسب وصف رئيسة فرنسا له خلال قمة للناتو فى بلادها. الميزة أن الرئيس يخرج من كل منها سالمًا غانمًا حتى أن المتحدث الصحفى باسم البيت الأبيض يشير إلى أن لرئيسه أرواحًا أكثر من القطط!
بعد أن نقلت لك هذه الرؤية أعترف فى النهاية أيضًا بأننى بعد الفراغ من المشاهدة سرعان ما تزول عنى القناعة التى يسعى المسلسل لفرضها ليعود لى يقينى بأن ذلك التصور نظرى بحت من المستحيل أن يجد تطبيقه على أرض الواقع. تزداد تلك القناعة حين ترد على ذهنى سياسات الرئيس الحالى- ترامب- الذى يقدم الصورة النقيض على طول الخط مع تلك الصورة الوردية التى يحاول المسلسل أن يجعلنا أن نعيش فى «خدرها»!