لله والوطن
من حق مصر أن تفخر بأبنائها الذين صنعوا بإرادتهم ووعيهم وإخلاصهم وصلابتهم ملحمة السابع والعشرين من سبتمبر 2019.. هى فعلاً ملحمة سطروها فى كتاب التاريخ بتصديهم وإفشالهم واحدة من أشرس الهجمات التآمرية.. التى استهدفت الزج بالوطن فى أتون فتنة كبرى.. وتمزيق جبهته الداخلية.. والوقيعة بين شعبه وقيادته.. وإنهاك جيشه وانتهاك أمنه.. وإعادة البلاد إلى مشهد الفوضى والدمار والانقسام والطائفية والاحتراب والاستقطاب الذى عشناه بأسوأ وأحلك تفاصيله فى عامى 2011 و2012.
ومن حق المصريين كذلك أن يفرحوا ويحصدوا ثمار ما زرعوا.. وما تحملوا بنفوس راضية من معاناة وإنهاك وضنك وحرمان.. فى ظل إجراءات إصلاحية قاسية وصعبة ومؤلمة.. صبروا عليها وتقبلوها أملاً وانتظاراً ليوم الجائزة العظيم.. ذلك اليوم الموعود الذى يشعرون فيه بأن تضحياتهم آتت بالنجاح المأمول ولم تكن «هباء منثوراً».
•• من أجل ذلك
نتصور أن الفترة القادمة سوف تشهد إجراءات غير مسبوقة من جانب الدولة.. لرفع المعاناة عن الناس وإسعادهم وتعويضهم خيراً عن صبرهم وتضحياتهم.. ليس فقط إرضاء لهم أو اتقاء لردود فعلهم.. ولكن لأن الظروف أصبحت مهيأة بالفعل لحصد ثمار الإصلاح.
وفى تقديرنا الشخصى.. أنه ربما يكون من الملائم جدا بدء هذه الإجراءات بالتركيز على تخفيف الأعباء التى ترتبت على رفع الدعم الحكومى عن منتجات الطاقة.. وخاصة الوقود والمحروقات بأنواعها.. والكهرباء.. والذى أدى إلى موجات متتالية من ارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات أنهكت المجتمع.. وبشكل خاص طبقاته المتوسطة وما أدنى منها.
•• بالنسبة للمحروقات
سيكون مناسباً ومقبولاً جداً إقرار تخفيض بسيط على أسعارها.. فى ظل ارتباطها بأسعار النفط العالمية التى تشهد انخفاضاً ملحوظاً.. وكذلك ارتباطها بأسعار صرف العملة الوطنية.. حيث شهد الجنيه المصرى ارتفاعا ملحوظا فى مقابل الدولار (العملة الرئيسية لاستيراد المنتجات البترولية).. أضف إلى ذلك العائد الكبير لدخول حقول الغاز والنفط المكتشفة فى البحر المتوسط فى مراحل الاستغلال شبه الكامل.
فمن الطبيعى أن يعود ذلك بفائدة محسوسة على المواطن.. إما بتخفيض أسعار الوقود.. وإما بتوجيه المبلغ الذى سيتوافر فى قيمة الدعم المقدر للمواد البترولية فى موازنة الدولة.. إلى قنوات تعود بفوائد مباشرة ومحسوسة على الناس المتعطشين لأية بارقة أمل لالتقاط الأنفاس من إجراءات الإصلاح الاقتصادى.. كأن يوجه هذا المبلغ مثلاً لتمويل الاعتمادات الإضافية لدعم أنواع معينة من السلع الاستهلاكية.. أو إنتاج الماء او الكهرباء.. أو الخدمات الصحية والطبية ووسائل النقل والمواصلات.
•• أما بالنسبة للكهرباء
فليس مطلوبا.. وفقا لما أوضحناه من قبل.. إلا أن تنتبه الحكومة إلى ضرورة إصلاح منظومة المحاسبة على استهلاك التيار الكهربائى.. لأن التطبيق العملى لنظام «الشرائح» قد كشف عن ظلم كبير يقع على فئات كثيرة من المستهلكين.. ومن أشكال هذا الظلم على سبيل المثال أن المستهلكين المصنفين فى الشرائح العليا تتم محاسبتهم على كل استهلاكهم بسعر أعلى شريحة.. فى حين كان ينبغى محاسبتهم عن استهلاك كل شريحة بسعرها.. وأنه فى حالة تراكم قراءات الاستهلاك أكثر من شهر فإنه تتم محاسبة المستهلك على إجمالى الكمية المستهلكة عن المدة كلها.. وهو ما ينقله إلى شرائح أسعار عالية.. لذلك ينبغى أن تتم المحاسبة شهراً شهراً.
فلو أنصفت الحكومة.. لقامت فوراً، إما بإلغاء هذا النظام المحاسبى الظالم.. والفاشل لأنه خلق منازعات كثيرة مع المستهلكين، وأدى إلى تفشى ظاهرة سرقة الكهرباء أو الامتناع عن دفع قيمة الفواتير.. أو على الأقل علاج هذه الثغرات التى أشرنا إليها.
•• وتبقى القضية الأهم
وهى ضرورة إعادة الانضباط إلى أسواق السلع وأسعارها.. إذ لا خلاف على أن المصريين يعانون مشكلة ضخمة ومعقدة مع الغلاء وانفلات الأسعار.. وهذه المشكلة تفاقمت وتجاوزت كل حدود المعقول مع قرار تعويم الجنيه الذى استغلته «مافيا الاحتكارات» أبشع استغلال.. ورفعت أسعار كل السلع بنسب مبالغ فيها جداً.. ولا تتناسب مطلقاً مع نسبة الزيادة فى تكلفة إنتاج وتسويق هذه السلع بعد التعويم.. وحدث ذلك فى ظل غياب الرقابة الحقيقية على الأسواق وعجز منظومة «حماية المستهلك» عن القيام بدور فاعل.. وأيضاً بسبب الاعتقاد الخاطئ بأن نمط الاقتصاد الحر وترك حركة التجارة لآليات العرض والطلب يعنى أن ترفع الدولة أيديها تماماً عن الأسواق.. حيث يقع المستهلك فريسة للممارسات الاحتكارية.
فلا بد أن تتحرك الدولة بجدية وبقوة لكسر هذه الاحتكارات.. وقد اقترحنا من أجل ذلك إعادة إحياء مشروع قانون تحديد هامش الربح على السلع فى كل مرحلة من مراحل الإنتاج وصولاً إلى سعر البيع للمستهلك النهائى.. لأنه لا جدوى من الاكتفاء بإلزام البائع بإعلان سعر السلعة.. دون ضمان أن يكون هذا السعر عادلًا بالنسبة للبائع والمشترى.
ومن المهم أيضاً تفعيل ودعم وتقوية دور الأجهزة الرقابية العامة.. ممثلة فى جهاز وجمعيات حماية المستهلك.. وجهاز التجارة الداخلية.. وِشرطة التموين.. وسوف يظل دور هذه الأجهزة مطلوباً وأساسياً.. لأن الدولة هى التى تحملت تبعات انفلات الأسعار وما خلفته من تأثيرات اجتماعية.. خصما من رصيدها السياسى ومن ثقة الشعب فيها.. وقد آن الأوان من أجل أن تعود هذه الثقة.