عندما استولى الصليبيون على آخر معاقل المسلمين فى الأندلس بسقوط غرناطة فى أيدى فرديناند وإيزابيلا سنة 1492 ميلادية بعد حكم عربى دام حوالى ثمانية قرون كان أمام مسلمين ويهود الأندلس إما اعتناق المسيحية أو الطرد من البلاد أو القتل، وكانت هناك طائفة من اليهود الشرقيين تظاهرت باعتناق المسيحية ولكن كل طقوسها الدينية كانت يهودية، ولما بدأت محاكم التفتيش الإسبانية الشهيرة عملها خلال القرن السادس عشر، وما تلاه لتطهير إسبانيا تماماً من أى عقيدة غير مسيحية كاثوليكية اضطرت سلالة هؤلاء اليهود للهجرة إلى تركيا لتحتمى بالسلطان العثمانى عندما كانت الخلافة العثمانية فى اسطنبول فى أوج قوتها،
وعرفت هذه الطائفة اليهودية باسم يهود الدونمة، وبمجرد استقرارها فى تركيا تظاهرت باعتناق الإسلام لكسب ود السلطان العثمانى، وإن بقيت الكثير من عاداتها وممارساتها الدينية مشوبة باليهودية.
وكان نوع الإسلام الذى مارسته خليطاً من طقوس الكابالا اليهودية الواردة فى التلمود وطقوس الصوفية الإسلامية. وعلى مر السنين نما نفوذ هذه الطائفة واحتل الكثير من أعضائها وظائف رئاسية ومرموقة فى الإمبراطورية العثمانية.
وقد تأسس الفكر الدينى لهذه الطائفة فى القرن السابع عشر على يد الحاخام شبتاى زفى الذى كان يعتقد أنه المسيح المنتظر، ولكن السلطان العثمانى محمد الرابع أجبره على اعتناق الإسلام، وحذا حذوه الكثير من أتباعه الذين كانوا يعرفون بالسبتيين وقد أعلنوا إسلامهم علناً ولكن طقوسهم الدينية كانت يهودية يمارسونها سراً، ولذلك لم يعترف بهم حاخامات اليهودية التقليديون كجزء من الطائفة اليهودية، ولذلك كون هؤلاء اليهود الدونمة طائفة خاصة بهم.
صعود الدونمة للسلطة فى تركيا
تمكن الكثيرون من يهود الدونمة إلى جانب اليهود التقليديين من الصعود على مر السنين إلى مراتب القوة السياسية والاقتصادية فى سالونيكا اليونانية، التى كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية عندئذ، وكان أفراد من هذه الطائفة هم الذين أنشأوا فى القرن التاسع عشر جمعية الاتحاد والترقى المعروفة بجمعية تركيا الفتاة، وأعدت هذه الجمعية للثورة ضد السلطان العثمانى لإسقاطه وإنشاء دولة مدنية، ونجحت تركيا الفتاة فى إسقاط السلطان عبدالحميد الثانى فى ثورة أشعلتها سنة 1908 وأعلنت الجمهورية، ولكن بقيت الخلافة الإسلامية وسط جو مزعزع وتولاها سلاطين كان نفوذهم مزعزعاً.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 انضم السلطان العثمانى إلى جانب ألمانيا، ولما هزمت كلتاهما فى هذه الحرب فقدت تركيا كل أملاكها فى الدول العربية وأوروبا الشرقية، وحاول الحلفاء المنتصرون فى هذه الحرب وهما بريطانيا وفرنسا تقطيع أوصال تركيا ذاتها وتحويلها إلى مناطق نفوذ لهما ولليونان، ولكن ضباط الجيش التركى العثمانى، قاموا بثورة أسقطوا فيها آخر سلاطين الدولة العثمانية وطردوا القوى الأجنبية من أراضى تركيا، وأعلنوا قيام جمهورية تركية علمانية، وكان قائد هذه الثورة هو مصطفى كمال أتاتورك أحد جنرالات الجيش العثمانى خلال الحرب العالمية الأولى، وتؤكد القصص المنتشرة حوله أنه كان أحد يهود الدونمة المخلصين وتظاهر بالإسلام لإمكان السيطرة على الشعب التركى الذى تتكون أغلبيته الساحقة من المسلمين السنة.
وبمجرد انفراد أتاتورك بالسلطة قام بإلغاء الخلافة الإسلامية سنة 1924 وعمل المستحيل للقضاء على تراث تركيا الإسلامى.
فغير الحروف العربية التى كانت اللغة التركية تكتب بها واستبدلها بحروف لاتينية وأغلق أغلبية المدارس الدينية، وصار على نهج متطرف من محاولة خلع تركيا من تراثها الشرقى، وتحويلها عنوة إلى دولة أوروبية وكان يهود الدونمة هم الأداة الفعالة التى استند إليها أتاتورك فى مشروعه لتغريب تركيا، وكانوا يشغلون مراكز السلطة والنفوذ السياسى والاقتصادى فى جمهورية أتاتورك الوليدة.
وقد اختلفت تقديرات عدد أفراد اليهود الدونمة، فتقول بعد المصادر إنهم لم يكونوا يزيدون علي مائة وخمسين ألف شخص معظمهم فى الجيش والوظائف الحكومية وطبقة رجال الأعمال المسيطرة اقتصادياً، بينما وصلت بعد التقديرات إلى أن عدد يهود الدونمة كان مليونا ونصف المليون، وكانوا أقوى مما تذكرهم المصادر ومنتشرين فى كل مجالات الحياة التركية، وكان أحدهم وهو توفيق روستو آراك أحد أقرب أعوان أتاتورك، وعمل وزيراً لخارجية تركيا من سنة 1925 حتى سنة 1938 عند وفاة أتاتورك، ونقف عند هذه الفقرة ونستأنف فى المقال التالى قصة يهود الدونمة، وما فعلوه بتركيا حتى وصلت مقاليد السلطة فيها إلى رجب طيب أردوغان.
الرئيس الشرفى لحزب الوفد