إن بناء الأرض تطلب من الإنسان آلاف السنين, وقد كان المصري القديم أول من استطاع أن يصل إلى المعرفة والعلم اللذين مكناه من البناء, فقد تمتع بصفات أكسبته على مر العصور ما يعرف بـ «روح الحضارة» جوهر الحضارة البشرية, التى تمثلت فى «ذكاء إنسانى» استطاع من خلاله أن يحافظ على التوازن ما بين إنجازاته ومكتسباته فى الماضى, والتطور والتجدد والإبداع المستمر, هذا الابداع الذى استمر فى التدفق لآلاف السنين أثرى به المصريون القدماء الإنسانية.
فعبارة «هيرودوت» الشهيرة «إن مصر هبة النيل» أرى أنها بلورت لنا صفات «روح الحضارة», حيث إن النيل ينبع ويجرى فى دول عدة لم يبن أهلها حضارة كما بنى المصريون, وتتجلى الصفات المصرية الأصيلة فى «أهل النوبة» سكان ضفاف النيل خاصة قبل عمليات التهجير, حيث ترى الإنسان ذا البشرة الداكنة, الذى تسكنه الطمأنينة, بشوش الوجه, محباً للغير, ومتقبلاً للاختلاف, متقناً عمله, ويتحلى بصفات كالصدق, الصبر, والنظام.. وغيرها، فهذا هو المصرى القديم، وتلك هى صفاته التى استخدمها فى صانع أولي حضارات التاريخ, وقد أثبتت النصوص التاريخية أن معظم ملوك وملكات الأسر الفرعونية الوسطى كانوا من ذوى البشرة السمراء «نسبة إلى الجنوب».
وقد تكالب على مصر الغزاة والمستعمرون, منهم أصحاب حضارات ومنهم ما دون ذلك, وإن لم يكونوا الأثرى إلا أنهم كانوا الأقوى، وفرضت على المجتمع المصرى لغات غير «اللغة الهيلوغريفية» لغة حضارته وتاريخه, وهكذا كانت البداية لانحسار وانفصال المصريين عن حضارتهم العريقة, وباتوا يفقدون شيئاً فشيئاً معارفهم وثقافتهم مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال، إلا أنهم حملوا فى وجدانهم مكتسبات وروح هذه الحضارة.
ومرت القرون وجاء الفتح الإسلامى لمصر, وأضفت الإمبراطورية الإسلامية على المجتمع المصرى بعض الصفات الجليلة, التى فى أعتقادنا أن صفة «التسامح» كانت من أهمها, فالتسامح هو جوهر الدين الإسلامى, هذا التسامح الذى أتاح مجالاً واسعاً للتعايش بين العديد من الانتماءات المختلفة بثقافاتها المتعددة, فقد عاش على أرض مصر المسلمون والمسيحيون واليهود, مما هيأ الظروف للعمل والإبداع فى جميع المجالات, حتى يذكرنا التاريخ بأنه قد تم افتتاح أول مستشفى عام 872 م فى مصر, وانتشرت بعد ذلك المستشفيات فى كل أنحاء الإمبراطورية الإسلامية، كذلك كان اختلاف الرأى فى الفقه الإسلامى للأئمة الأربعة, من أكثر الأدلة على حرية الفكر والتعبير, فقد كفل الإسلام حق «الحرية», تلك الحرية المسئولة فى إطار الدين والأخلاق اللذين مثلا محور التقدم آنذاك، وأستمر الأمر إلى أن انهارت الإمبراطورية الإسلامية لأسباب يطول شرحها, إلا أننا نرى أن البعد عن جوهر الدين والأخلاق كان أحد أهم أسباب هذا الانهيار, حيث انحل الإطار الذى تتفاعل فى داخله المنظومة بكل إيجابياتها وسلبياتها.
وتوالى بعد ذلك المستعمرون على مصر, وعانى أهلها من السلب والنهب لخيرات وثروات بلادهم، إلا أن هاتين الحضارتين تركتا العديد من المكتسبات الإيجابية فى وجدان المصريين, وقد ظلت تلك المكتسبات فى أحيان كثيرة سجينة دوامة الأحداث.
فعندما نتأمل مشهداً كثيراً ما يتكرر كالمشاجرات فى الشارع أو على المقهى ونسمع صياحاً وألفاظاً تتناثر بين المتشاجرين, ويتجمع الناس فى محاولة لاسترضاء وتهدئة الطرفين, إلى أن ينتهى الأمر غالباً بالتصالح, فنجد أن إخراج طاقة الغضب بالصياح, وعدم التهجم بالأيدى على الآخر وإيذائه بدنياً, كما أن الدخول كطرف فى مشكلة ليس للمجتمعين فيها ناقة ولا جمل, كلها صفات متوارثة فى الوجدان, ومكتسبات يرى فيها المصريون أن مبدأ الكرامة يجب احترامه, ويثبت أنه لا فرق بين إنسان وآخر على اعتبار الديانة أو المذهب أو الجنس، وأيضاً عندما نفكر فيما استطاع أن يحققه المصريون من نجاحات فى مختلف المجالات، خاصة فى الخارج, فى مناخ أو نظام يثيب المتفوق ويجعل منه قدوة يحتذى بها, كلها مكتسبات فى الوجدان تظهر عندما يتم استدعاؤها.
إن القدرة هى تراكم لتاريخ طويل من بناء حضارة ومعايشة تجارب ومعاناة عاش بها وفيها شعب, وتركت فى نفوس أفراده ووجدانهم مفردات تعبر عن هويتهم, بحيث أصبح من غير المعقول أو المقبول لديه محاولة تغييرها أو تبديلها فهى التى تتحكم فى تصرفاته تجاه الأحداث, وهى بمثابة أدوات يستعمل ما يراه مناسباً منها لكل ظرف يمر به.
والمقدرة هنا يعبر عنها بالإرادة التى يستدعيها المصريون دفاعاً عن أنفسهم, خاصة عند شعورهم بالخطر, فهذا الشعور تحديداً إذا لامسه هب رافضاً وثائراً ليلفظ ما يهدده ويهدد كيانه وهويته اللذين هما حياته, فدائماً صوت هذه الروح السجينة يدعوه إلى أن ينطلق إلى حضارة الحياة.
إن تلك المقدرة التى ينوء بها وجدن هذا الشعب, يمكن أن تترجم إلى إرادة, يبنى بها بلاده, ولكن ما ينقصنا فى هذه المرحلة هو الصدق الذى طال انتظاره من الشعب المصرى, الذى بدونه لا يمكن أن يخرج ما في داخله من قدرات للبناء, لتقوم بلاده مرة أخرى, وتصبح منبراً حراً يصون كرامة الإنسان وحياته.