رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

ترب اليهود.. جمهورية الخوف

بوابة الوفد الإلكترونية

ترب اليهود.. تلك المنطقة المنسية التي كانت تمثل فيما مضى بالنسبة للكثيرين مكاناً منبوذاً لأنها تجمع رفات اليهود الذين يحتلون مساحة مظلمة في الذاكرة الجمعية للمصريين، خاصة بعد أن تمدد الكيان السرطاني متمثلاً في إسرائيل على الخريطة العربية، فابتلع معظم مساحة فلسطين، فضلاً عن الجولان السورية، واعتداءات من وقت لآخر على الجنوب اللبناني.

غادر اليهود ومات من مات ثم واري الثري في تلك المنطقة التي أصبحت ملاذاً لفقراء المصريين الذين سقطوا من ذاكرة الدولة التي أقدمت علي تحول خطير حينما وضعت سياسات تدلل الأثرياء علي حساب الفقراء طيلة العقود التي تولي فيها الرئيس المخلوع «مبارك» سدة الحكم، وبحلول ثورة الخامس والعشرين من يناير ظن فقراء العشوائيات ومن بينهم سكان مقابر اليهود بالمسئولين خيراً، لكن ذهبت حكومة، وجاءت حكومة، ومازال حال العشوائيات يشهد مزيداً من التردي.. فيما يلي نسلط الضوء علي حياة ما يزيد علي ألفي أسرة تحيا في مدافن اليهود، التي تعرف بـ «عزبة النصر» وليس لها من اسمها نصيب، فحالة البؤس والانكسار تلازم الأهالي الذين يفصل بينهم وبين حي المعادي الذي يقطنه علية المجتمع مسافة لا تتجاوز كيلو متراً.

 

عزبة النصر

حينما تقترب من ترب اليهود ودون تنبيه تتحول من حياة الحضارة الحديثة لحياة القبائل البدائية، فليس هناك ما يشير للحياة المدنية هناك سوي أطباق «الدش» التي تعلو المنازل، وأجهزة الموبايل بيد الكبار والصغار، التي لم تعد عنواناً أو مؤشر ثراء بأي حال من الأحوال.

وعلي الرغم من حالة الفرح التي انتابت الأهالي بسبب ما أعلن عنه من قبل بشأن وضع المنطقة علي قوائم التطوير ضمن تسع مناطق عشوائية بمنحة من الاتحاد الأوروبي بقيمة 13 مليون يورو، إلا أن الوضع مازال علي حاله، ما أشاع جواً من الإحباط بين المقيمين بعزبة النصر الذين يقع معظمهم تحت خط الفقر بسبب ما تشهده البلاد منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير، حيث تراجعت فرص العمل بشكل غير مسبوق نتيجة إغلاق العديد من المصانع، فضلاً عن التعثر الذي تشهده العديد من المرافق كالسياحة وأسواق البناء والعقارات.

جنباً إلي جنب مع أزمة البطالة التي تخيم علي الأهالي تبرز أزمة تلوث البيئة وتردي أوضاع المرافق وغياب دور المحليات، فضلاً عن انتشار الجرائم بسبب انتشار البلطجية.

 

تلوث وأشياء أخرى

تتعدد معاناة الأهالي بشكل يدفع الجميع للبحث عن مخرج دون جدوي، حيث المشاكل بلا حل منذ عقود، فالطرق غير ممهدة والفوضي سائدة أينما حللت، كما أن السكان لا يعرفون المياه النقية الصالحة للشرب ولا الكهرباء للحد الذي يدفعهم للاعتقاد بأنهم يتعرضون لعقاب من قبل الدولة لأنهم سكنوا في هذا المكان، ومن اللافت أنه لا توجد طموحات شخصية للأهالي فقط طموحات جماعية لم تتغير منذ عقود، تتمثل في كوب ماء نقي وعامل نظافة يجمع القمامة التي تؤدي لانتقال العدوي والأمراض بين الكبار والصغار.

كان حجم المعاناة بادياً علي الوجوه، حتي الأطفال هنا لا أثر لبسمة ولا معالم للراحة علي وجوههم، وبمجرد اقترابنا من بعض الأهالي، انفجر سيل الشكاوي من الوقع المزري الذي يحيط بالسكان.

«الكل تاجر بنا».. جملة ترددت علي لسان الكثيرين الذين يسكنهم غضب تاريخي بسبب إهمال الحكومات المتعاقبة لهم، فمن يتجول بالحواري والأزقة يكتشف للوهلة الأولي أن المكان يصلح لأن يكون بلاتوه تصوير لعمل سينمائي من التخلف والعشوائية.

 

خارج الحياة

الطريق الدائري يقودنا إلي هذه المنطقة المنسية، فهي أشبه ما يكون بـ «الخرابة» أسفل الطريق، ستجد عشوائية وفوضي لا حصر لها، فسائقو التوك توك يستخدمونه كموقف لهم، والعمال يستخدمونه للجلوس من أجل انتظار فرصة عمل، وسكان المنطقة يتعاملون معه كمقلب للقمامة التي يلقونها، أما بداية الطريق فعلي الصفين ورش لتصنيع الرخام والجرانيت والطوب الفرعوني، ونهاية الطريق تقودنا إلي المنطقة المغضوب عليها، كما يسميها أهلها، وهي عبارة عن عشش ومساكن بالطوب الأحمر لا يوجد بها صرف صحي ولا كهرباء ولا مياه، يقطنها أناس فقراء للغاية، لم يصلوا بعد إلي خط الفقر، بل بالنسبة لأوضاعهم المتردية خط الفقر هو الغني بعينه.

يبلغ عدد سكان منطقة «ترب اليهود» الواقعة بالبساتين حوالى 20000 أسرة فقيرة، وقام بعض السماسرة بالاستيلاء على قطعة أرض واسعة مساحتها ٤٥ ألف متر، وأحاطوها بمجموعة من الأحجار كبيرة الحجم لتظهر علي شكل مساكن، وقاموا بتأجيرها للفقراء، البعض منهم سكن فيها لكي تكون بمثابة مأوي تحميه من النوم في الشارع، والبعض الآخر استغل عدم رقابة الدولة والانفلات الأمني الذي انتشر بالبلاد في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 ليستغل هذه الأرض لعمل مساكن بسيطة ليستأجرها الفقراء للسكن فيها، مستغلاً بذلك حاجتهم الشديدة للمسكن بدلاً من أن يعيشوا كمتشردين بلا مأوي.

 

الفوضى هى الحل!

من جانبه اعترف «محسن عبدالحكيم» (32 عاماً) سائق توك توك، بأن الأراضي التي قام الأهالي بالبناء عليها في منطقة ترب اليهود كانت ملكاً لشركة مياه منذ سنوات طويلة، وأثناء الثورة تمت سرقة جميع معدات الشركة وأصبحت أرضاً خالية ولا يهتم بها أحد، لذلك استغلت الأسر الفقيرة هذه الأرض لتبي مكاناً تنام فيه بدلاً من النوم في الشوارع، مضيفاً أنهم استولوا علي الأرض بوضع اليد وتم تقسيمها إلي منازل صغيرة لإيواء الأسر المشردة.

وذكر «عمر أحمد» (42 عاماً)، عامل فرز قمامة، وأحد سكان المنطقة، أنه قام ببناء مسكن بسيط بالطوب الأحمر له ولأسرته بالمنطقة بعدما علم أن الفقراء وضعوا أيديهم علي الأرض وقاموا ببناء مساكن لهم.

أما صبحي عبدالمنعم (28 عاماً) اختار أن يبنى علي المنطقة التي استولي عليها «قهوة بلدي» بالطوب وفيها كراسي خشب مكسرة لكي يسترزق منها هو وزوجته وطفلته، خاصة بعد بتر ذراعه وقام بتركيب ذراع صناعية فأصبح لا يجيد المهن التي تحتاج إلي جهد شاق لذلك اختار مهنة «القهوجي».

 

زنازين للحياة

المأساة لا تزال تلاحق أهالي «ترب اليهود»، فالكلاب تحاصرهم من كل جانب، والمساكن التي يقطنون فيها بمثابة سجن، فهي عبارة عن حجرتين، الحجرة الواحدة 6 أمتار وحمام صغير للغاية ومبنية بالطوب الأحمر، فضلاً عن الأثاث المكسور فسرير مخلخل وكراسي محطمة والدواليب لا أبواب لها، هذه مكونات مساكن الفقراء.

ولم يكن المسكن وحده المسبب للجحيم بل استغلال البعض لآلامهم وعوزهم، فإيجاره يقدر بحوالي من 300 إلي 400 جنيه، والغالبية لا تستطيع دفع هذه المبالغ، لذلك لا يجدون مخرجاً إلا العمل في القمامة لدفع الإيجار وإلا سيكون مصيرهم الجلوس والنوم في الشوارع المليئة بالكلاب الضالة والبلطجية.

تعاني منطقة «ترب اليهود» مثل العديد من المناطق العشوائية من أكوام القمامة التى تغطى المكان ولكنها تختلف عن المناطق الأخري التي تفوح منها رائحة القمامة، حيث يعمل معظم سكانها بمهنة فرز القمامة لكي يحصلوا علي أموال يستطيعون بها إطعام أطفالهم.

تقول «ابتسام محمد»، أرملة لديها ثلاثة أبناء (طفل معاق ذهنياً وطفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها 10 سنوات وشاب 25 سنة): إنها اضطرت لأن تعمل هي وأطفالها بمهنة فرز القمامة بعدما توفي زوجها لكي تستطيع دفع

إيجار المسكن الذي تقطن به وأطفالها.

أضافت والدموع تنزل من عينيها: «إنها طالبت صاحب المسكن أن يخفض قيمة الإيجار الذي يقدر بحوالي 400 جنيه بعدما توفي زوجها ولكنه رفض وصمم علي دفع المبلغ كاملاً».

وتحدث «كريم محمد» عن معاناته هو وعائلته من عدم وجود خدمات حكومية بالمنطقةـ مؤكداً أن الحمامات معظمها مشتركة.

وذكر «أحمد طه» 35 عاماً، صاحب ورشة بالمنطقة، أن نظام الصرف الصحي الذي تم إمداده كان ضعيفاً، ولا تقوم الحكومة بالصيانة الدورية له، ما يغرق الشوارع بمياه المجاري، ويضطر السكان إلى أن ينفقوا على إصلاحه بين الحين والآخر، حتى لا يعيشوا في رائحة المجاري الكريهة، وما يأتي منها من أمراض.

وأكد «مسعد حمدي» أن الأهالي لا يجدون مستشفي يعالجون به، مشيراً إلي وجود مستشفى خاص خارج المنطقة، وتكاليفه مرتفعة ولا يملكون القدرة على دفعها.

وأضاف «حمدي» أن المجتمع لا ينظر لعزبة النصر إلا كمنطقة من المجرمين والبلطجية ولم يضعوا في الاعتبار غياب الشرطة تماماً عن المنطقة، وغياب الخدمات عن العديد من الأسر داخل المنطقة.

ولفت الحاج «أحمد فتحي» (48 عاماً) إلي أن القمامة ترتفع على شكل تلال بالمنطقة ولا يوجد أي صندوق قمامة في المكان، مشيراً إلي أن عامل القمامة يطالب دائماً بمقابل مادي لكي ينظف المنطقة ولكن الأهالي البسطاء لا يستطيعون توفير هذه الأموال له، لذلك قرروا الذهاب إلي رئيس الحي لتقديم بعض الشكاوي بخصوص تدني مستوي الخدمات بالمنطقة ولكن لم يهتم بنا أحد.

 

المجاري تغرق الشوارع والبيوت

أما «عمر إسماعيل» (29 عاماً)، فأكد أن مشكلة الصرف الصحي لم تنته بالمنطقة حتي الآن رغم الشكاوي العديدة المقدمة من الأهالي، لافتاً إلي أن مياه المجاري أغرقت عدداً من المنازل، مما تسبب في انتشار الناموس والحشرات التي تتسبب في إصابة سكان المنطقة، خاصة الأطفال بالأمراض الصدرية.

وأضاف «إسماعيل» أن مشاكل المنطقة لا حصر لها، فالكهرباء لم يتم إدخالها حتي الآن إلي البيوت المبنية بالطوب الأحمر، لذلك معظم الأهالي يسرقون وصلات الكهرباء لتنير منازلهم، ولا تقتصر سرقة الأهالي علي الكهرباء فقط بل يسرقون أيضاً خطوط المياه.

 

مياه المجاري تحاصر الأهالي

وقال أحمد جلال أحد السكان: «اشتكينا مراراً وتكراراً للمسئولين عن تدني أحوالنا»، مشيراً إلي أن مياه المجاري مرت من خلال السور وأغرقت الشارع الذي يسكن فيه، مما دفعه وسكان الشارع في فتح ماسورة الصرف التي لم تعمل بعد من أجل حل المشكلة، موضحاً أنه يتمني أن تهتم الحكومة بهم وتحل مشكلاتهم وأن يصل الغاز الطبيعي للمنطقة.

كما لم تغرق المجاري الشوارع فقط، بل أغرقت أحد المباني، حيث أصبح مهدداً بالسقوط ويهدد بكارثة - حسبما تشير الحاجة أم مسعد - التي أوضحت أنها تقدمت بشكاوي عديدة للحي ولمحطة مجاري جزيرة دار السلام ولكن لم يستجب أحد لمطالبها ولم يتحرك أي من المسئولين للقيام بدوره.

وانتقدت «أم مسعد» تجاهل المسئولين لشكواها من غرق المبني بمياه المجاري، الناتج عن إهمال الدولة وتأخرها في الانتهاء من مرفق الصرف الصحي بالمنطقة، وحذرت من كارثة تهدد المنطقة لأن مياه المجاري وصلت لغرفة كهرباء - ضغط عالي - مشيرة إلي أن الغرفة مهددة بالغرق مما سيتسبب في كارثة.

وأكدت «أم أحمد»، ربة منزل، أن مياه المجاري جعلت السكان يغادرون المبني، ولفتت إلي أن المحلين المغلقين بالمبني أحدهما كان مخبزاً وأغرقته مياه المجاري وتسببت في تلف أجولة الدقيق، فيما كان المحل الثاني لبائع خضار وغرق هو الآخر.

وأكد عدد من الأهالي، أنهم يعيشون في مأساة يومياً بسبب تجاهل المسئولين لمشكلاتهم وحياتهم التي تحيط بها المخاطر بسبب مياه المجاري التي تغرق شوارع المنطقة، مشيرين إلي أن الحكومة تعاملهم باعتبارهم مواطنين مصريين لهم حقوق، لافتين إلي أن السكان يصابون بالفشل الكلوي وأمراض صدرية بسبب المجاري والقمامة.

 

البطالة سمة المنطقة

 

البطالة دائماً تقود الفرد إلي القيام بأعمال غير مشروعة كالبلطجة أو السرقة أو غيرها من الإعمال الإجرامية، حيث تجعله فريسة سهلة للعديد من الجماعات الإرهابية التي تستغل حالات الناس وبؤس أوضاعهم المعيشية والمالية، وتعاني «ترب اليهود» من البطالة، فمعظم الشباب لا يجدون فرص عمل شريفة يستطيعون من خلالهم أن يصرفوا علي أهاليهم، والبعض الآخر من الشباب لا يجدون إلا العمل في فرز القمامة التي تنقل إليهم العديد من الأمراض لكنهم مضطرون للعمل بها.

وعندما سألنا أحد الشباب ويدعي أحمد مصطفي عن مهنته قال: «أنا عاطل كمعظم شباب المنطقة»، معترفاً أن البطالة جعلت العديد من شباب المنطقة يتحولون إلي بلطجية لكي يكسبوا الأموال.

وأضاف «أحمد»: نتمنى أن نعيش حياة كريمة مثل الآخرين.. متسائلاً: «أليس من حقنا أن نحيا حياة كريمة مثل باقي المواطنين؟».