رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

3 ملايين متسول ينهشون سمعة مصر

بوابة الوفد الإلكترونية

 

قبل أن تقرأ:

مضى من الألفية الجديدة ستة عشر عامًا ومازلنا فى عصرنا هذا متخلفين تمامًا عن الحضارة الحديثة وعلومها وفلسفتها وثقافتها!

نحن فى عصر المعلومات وقواعد البيانات والاحصائيات والإنترنت الذى يمكنه أن يقدم المعلومة فى لحظة.. ومع إننا أفلحنا فى وضع قاعدة بيانات لبطاقات الرقم القومى.. لكننا لم نبن عليها كليًا.. فلا نعرف أعداد وأسماء من هم تحت خط الفقر.. ومن يستحقون الدعم ومن لا يملكون ثمن العلاج.. ولا نعرف عدد المغتربين فى الخارج، ولا عدد المرضى بالإيدز أو السرطان.. ومن باع عقاره أو شقته ولمن بوسائل إلكترونية. 

لا نعرف أيضًا أعداد محترفى مهنة التسول. فخريطة التسول فى مصر متعرجة ومنحنية ومليئة بالهضاب والجبال والكهوف والمغارات وكل يوم يبرز «نتوء» جديد عليها دون أن نعرف مكنونه وجوهره.

ماذا يحدث لو كنا نمتلك بيانات صحيحة وكاملة عن المواطنين.. حتى إذا فاجأنا أحدهم بدخول عالم التسول، وحقق معه وثبت عوزه وفقره، أنه معوز يوفر له عمل إذا كان قادرًا، أو يمنح إعانة أو معاشًا، أما إذا كان نصابًا أُثرى من التسول كما حدث، فيواجه بحسم وتصادر أمواله.

لديَّ مشاهد صادمة من شوارع المحروسة.. أولها «دمعة» بالقرب من المقهى. فرت من عينى وأنا أتابع عجوزًا تنتحى بعيدًا عن العيون.. تلتحف السماء.. وشالاً وبضع «هلاليل» فوق جسدها الممتلئ، وتخبئ رأسها فى جسمها كلها وتمد رجليها القصيرتين أمامها، موحية لنفسها بعثورها على «نومه» مريحة.. فى العراء!! فى هذا البرد القارس الذى لا يحتمله جسد شاب فى مقتبل العمر فما بالنا بهذه العجوز، التى تابعتها أنا ورفقاء الجلسة بأعين ممتلئة حزنًا ودموعًا!

مشهد ثان: شاب اسمر فى بداية الثلاثينات، يحمل أوراقًا تخص المكفوفين، يطلب فيها دعمًا ومساعده لهم ولضعاف السمع، ويتحدث بطريقة توحى بأنه «أبكم»، فلما ناولته قيمة المساعدة سخر منى الرفاق، وأمسكوا بالورقة المطبوعة وتفحصوا أختامها، فإذا هى زائفة لم تصدر عن جهة أو هيئة!

مشهد ثالث: انتظرت أحدهم بالسيارة بالقرب من ميدان الجيزة.. فجأة توقفت سيارة فارهة موديل العام. وبدأ قائدها يلح بالسلام عليَّ. إصراره دفعنى لرفع بصرى إليه، فإذا أنا أمام شاب فى العشرينات من عمره، ساعته الكبيرة تبدو «ماركة».. شاحن «الآيفون» أو«النوت» ينبئ عن كثير.. ملابسه المرتبة توحى بيسر أحواله.. تحدث إليَّ بصوت تخنقه دموعه ويداه مضموتان إلى صدره، ترتعشان من قلق وتوصلان رسالة سريعة جدًا يقول فيها بمنتهى الارتعاشة: أنت آخر أمل ليا. أنت آخر أمل ليا.. أنا أسف جدًا أنا آسف جدًا.. جدًا! سألته مستغربًا» إيه؟ فيه إيه؟ بس هدى نفسك.. فيه إيه؟ واصل معزوفته ثم قال لى وهو يأكل الكلمات أكلاً: أنا معنديش فلوس ومسافر الغردقة ومعنديش فلوس للبنزين؟ أعطيته 70 جنيهًا أخذها ومضى! وأنا أكاد أسمع فى داخلى سخرية الرفاق وضحكاتهم!.. وذكرنى أصدقائى بخدع الفتاة الأنيقة التى تدعى سرقة حقيبة يدها بكل ما تملك، ويرق قلب الناس فيواسونها بجمع المال لها تعويضًا عما سرق منها، من دون أن يدروا أنهم وقعوا فريسة لـ«متسولة مودرن»!

لا يمكنك أن تتجاهل المشهد العام لجحافل المتسولين وفصوله المتتابعة أبدًا! لا يمكنك تجاهل التجمع الكثيف لـ«الشلة»، فهو يُشِل قدرتك على التحمل وكظم الغيظ! لا تستطيع أن تتمالك نفسك من هذه المأساة التى تفجعك.

وتفاجئك وتتحدى إيمانك وتختبره قبل إنسانيتك؟ فالرسول الكريم يعلمنا أن «الحسنة تجوز ولو كان طالبها على «صهوة جواد»! والمعنى أن فارسًا يمتلك جوادًا ويطلب المساعدة فهو لا يحترف طلب العون والمساعدة، وإنما تنبئ هيئته عن تعرضه لظروف خارجة عن إرادته، فتجوز إغاثته والتصدق عليه. فالتسول ليس من شيم الفرسان.

التسول منذ زمنٍ بعيدٍ فى مصر، يعتبر مهنة من المهن المربحة جدًا.. ولطالما كان هنالك كتاب يتابعون الظاهرة، ويرصدونها.. وكانوا يقدمون لنا إحصائيات تعززها «ضبطيات» وزارة الداخلية، وقد علمنا غير مرة أن مسئولين كبارًا كانوا يحترفون المهنة بعد نهاية عملهم الرسمى وشادوا قصورًا وبنوا فيلات من «عرق التسول» والتنطع على القادرين وابتزاز مشاعرهم بحجة حاجتهم الملحة للمال، للإعاشة أو الإعالة أو علاج الأمهات أو جراحات الأطفال إلخ. لا نعرف اليوم كم تبلغ حصيلة كل متسول يوميًا. يحتاج الأمر إلى تحقيق من نوعية تحقيقات عبدالعاطى حامد ومحمود صلاح وسيد عبدالعاطى.. وهؤلاء كانوا يتقمصون شخصيات المتسولين ويتنكرون فى هيئاتهم ويحترفون استخدام وسائلهم المتنوعة، سواء بإشهار لوحاتهم أو أوراقهم الإرشادية فى وجهك، والتى تستدر عطفك وتلعب على مشاعرك الإنسانية، ووازعك الدينى، وتفيد بأنهم من المصابين بالأمراض المزمنة، أو المدينين بمبالغ تثقل كاهلهم، أو لحاجتهم لتجهيز أبنائهم الخ. المتسولون لديهم عمومًا «عدة شغل» متطورة.. منها «المقشة» وهى مسجلة لحساب مدعى العمل فى هيئات النظافة والتجميل، وعلب المناديل وعبوة البول الصفراء وزجاجات العطر المباركة (...) وغيرها. وكان على الصحفيين المتنكرين فى ملابس المتسولين أن يستخدموا عدة الشغل هذه باحترافية، ثم كانوا يخبروننا عند انتهاء عملية اليوم الواحد عن «الغلة» التى حصدوها من فاعلى الخير، وكانت فى الأغلب تبلغ أرقامًا كبيرة. 

المتسولون اليوم يقرعون باب سيارتك ويطلون عليك من نوافذها المفتوحة.. شابة يافعة، مليحة، قد يكون بها مسحة من جمال، إذا أزلت من عليها تلوث الشارع وترابه، وامرأة منتقبة تغطى ملامحها(!!) وربما ينبئنا نقابها عن مخاوفها من افتضاح شخصيتها، أو تحسبها لمقابلة من يعرفها فربما كانوا من حى تسكنه، أو حتى من أقاربها، أو حتى من زوارها فى منزلها بعد انتهاء دوامها الرسمى فى الشحاذة! ومن بين شلة المتسولين أيضًا الأولاد الصغار، فتجد صغيرًا متسخ - أو ممزق- الملابس يرمق كوب قهوتك أو ساندويتشك ويقول لك بصوت يوجعك وبنظرة تنفذ كالسهم فى قلبك: أنا جعان.. ادينى ربع جنيه. (هذا قبل التعويم.. فيبدو أن المتسولين وطالبى الحسنة تأثروا كذلك بتعويم الجنيه ورفع سعر صرف الدولار فلم يعودوا يطلبون مبالغ محددة من فئة «الربع» أو حتى الجنيه، بل ربما يطلبون مساعدة مفتوحة، فإذا لم تكن وافية وملائمة وتتماشى مع وضعهم كمتسولين فإنهم يرفضونها ويعيدونها إليك!).

المتسولون اليوم يتوقعون منك أن تحتار فى قيمة المساعدة، وتسقط فى فخ الاختيار بين العملات المتاحة فى حافظتك، من جنيه لعشرة أو حتى خمسة. فالخمسة أصبحت أقل عملة يمكن قبولها، حتى «متسولوا الباركنج» بالبلطجة وبوضع اليد والذين يعتبرون الطريق العام ملكيه خاصة لهم.. لا يقبلون الآن بما هو أقل من خمسة جنيهات يقبضونها نقدًا أولاً، لكى لا يقيدوا أنفسهم بالزبائن وبمواعيدهم، فيضمنون ما يرونه حقًا لهم فقط!. وفضلاً عن هؤلاء وأولئك.. هؤلاء الشحاذون الجدد الذين ظهروا على سطح حياتنا فى السنوات الأخير كتطور طبيعى لمهنة التسول، وهم أولئك الذين يقدمون لك «عمال على بطال» التحية بكافة الأشكال والأساليب، تارة برفع الأيدى على الرأس كأنه يحييى بطلاً أو باشا أو بيه من البهوات وتارة بوضعها على الجبهة وتارة أخرى بوضعها على القلب»! هؤلاء هم «حملة المقشات»، ولا أقول عمال النظافة، فمن المستحيل أن تكون أجهزة الحكومة سجلت كل هذه الأعداد على قوتها، وإلا لكان واجبًا أن تكون كل الشوارع نظيفة بحكم ضرورة توزيعهم عليها. هؤلاء يختارون مناطق الاختناق والمطبات والإشارات المرورية للوقوف فيها، حيث يجبرونك على البقاء أمام توسلاتهم وتنهداتهم لفترات طويلة، وتتلبسهم دومًا حالة من الشقاء تشقى قلبك وتوجعك، وتحرق جيبك بالتالى على نقودك فى ثوان معدودات، عندما تحاول تفادى المشهد المؤسف والمزعج كله، بإخراج حافظة نقودك «واللى يطلع بقى من ذمتك».

وفقًا لدراساتٍ حديثةٍ صادرةٍ عن المركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية، فإن القاهرة تحتل المركز الأول فى أعداد المتسولين بـأعداد تتراوح بين 4000 و5000 متسول، تليها الإسكندرية حيث تستوعب الآن

1600 متسولاً تقريبًا. كما أكدت الدراسة أن 3٫41٪ من المتسولين يتم إجبارهم على ممارسة التسول بغير إرادتهم، كذلك فإن 75٪ من المتسولين يحملون صفة متسولى المواسم مثل رمضان والأعياد، وهم المتسولون الذين ينزلون إلى العمل فى المواسم والأعياد والمناسبات الرسمية اعتقادًا منهم أن هناك زيادة فى الرزق فى تلك الأوقات من العام، والدراسة قدرت العدد الإجمالى للمتسولين فى مصر بنحو 11000 تقريبًا، ونسبة الأطفال المتسولين تبلغ 7500 طفل متسول وهم أكبر الفئات، يليهم المسنون والذين تقل أعدادهم مقارنة بالأطفال بنسبة محدودة، وهؤلاء الأطفال هم قوة العمل الأصلية، فيحصدون حسب الدراسة مبالغ يومية تتراوح ما بين 600 - 620 ألفًا من الجنيهات، ومصادر الحصول على هذه العمالة الصغيرة معروفة فإما الإيجار من ذويهم أو خطفهم من مختلف أنحاء البلاد.

ورصد المركز القومى للبحوث الاجتماعية أيضًا فى بحث آخر إقدام محترفى المهنة على التطوير والابتكار لوسائل جديدة فى التسول، من بينها إعداد نوع ما من الدورات التدريبية لشلة المتسولين، فيدربونهم على عزف الموسيقى أو اللعب بالكرات الملونة أو تقديم عروض تلفت الانتباه للمارة، لاستدرار العطف والحصول على المساعدة كنوع من المكافأة على الجهد والأداء.

تتطور مهنة التسول بحسب مجريات العصر، ففى الخمسينات ظهرت هذه الحرفة للعلن، وبدأت الدولة فى محاربتها، ولكنها لم تندثر، بل زاد العدد بمرور الوقت، حتى من دون أن يكون هناك ارتباط بين الفقر والتسول، لأن كثيرًا من الموسرين وميسورى الحال امتهنوها واحترفوها كمهنة مدرة لدخل كبير، ولم تفلح إجراءات الدولة فى سبعينات القرن الماضى من منع تفشى الاعداد من ثلاثة آلاف إلى تسعة آلاف قفزة واحدة، متأثرة طبعًا بسياسات وإجراءات الانفتاح الاقتصادى الساداتية التى حولت المناخ السائد إلى مناخ استهلاكى بامتياز، يرصد كل مواطن فيه ما الذى لدى جاره أو لدى زميله فى العمل، من أجهزة كهربائية (خاصة الفيديو!) أو ملابس أو حتى وسائل الراحة والانتقالات وفى مقدمتها السيارات.. وهو ما استدعى من جميع المصريين الاستماتة فى جلب النقود بأى وسيلة ليسدوا فى نفوسهم شبق الرغبة فى امتلاك كل أدوات الرفاهية وسلعها الحديثة. اتخذت الدولة مجموعة من الإجراءات للحد من هذه الظاهرة، وبعدما وصل عدد المتسولين فى السبعينات إلى نحو تسعة آلاف، بدأت الدولة فى اتخاذ إجراءات لمحاولة الحد من هذه الظاهرة دون جدوى، بدليل أن عددهم اليوم يكاد يحصى بالملايين. ويلاحظ زيادة أعداد المتسولين يومًا بعد يوم، ويعتبر شهر رمضان ذروة مواسم التسول.

مهارات صائد أهل الخير!

لقد قبضت الشرطة على متسول من الشرقية يدعى محمد إبراهيم. «أم المفارقات» أن لديه حسابًا بنكيًا بمبلغ 350 ألف جنيه. كان يسافر يوميًا من الشرقية للقاهرة لممارسة مهنته، وكان يستبدل ملابسه الرثة بملابسه الأنيقة، ويحتال على قلوب الناس بادعاء المرض، وخلال التحقيقات، تبيّن أنه يجنى 400 جنيه يوميًا، ويركز اهتمامه على رواد المساجد، وركاب القطارات، كاشفًا عن امتلاكه مهارة اصطياد أهل الخير. أما أم محمد وهى متسولة محترفة أمام مسجد السيدة زينب فتبين أنها تمتلك ثلاثة منازل تمليك، وأبناؤها جميعًا متزوجون، وكل ثروتها من التسول.

أستاذة علم الاجتماع فى جامعة عين شمس سامية الساعاتى، تؤكد محدودية الإجراءات الرادعة لممتهنى مهنة التسول. وترى أن آليات الدولة عاجزة عن ردع محترفى هذه المهنة التى تدر دخلاً معقولاً على ممتهنيها من دون عناء أو تعب!

الدكتور محمد خطاب، أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس: إن تجمع المتسولين يزداد حول أماكن العبادة لأن الشخص يكون أكثر إقبالاً على عمل الخير وإخراج الصدقات، وسبب انتشار ظاهرة التسول أننا شعب عاطفى ومتدين بتجاوب بسهولة مع كل من يطلب المساعدة أو يدعى الفقر أو المرض ونصدقه إلى درجة تصل إلى حد السذاجة.

 أستاذ الاقتصاد الإسلامى فى جامعة الأزهر رفعت العوضى يحدد قيمة هذا الاقتصاد السرى بنحو 6 مليارات جنيه. ويلفت إلى أنهم يحتشدون فى المناطق العشوائية ويعتبر أن زيادة عدد المتسربين من التعليم وتفشى البطالة والتفكك الأسرى، من أبرز أسباب تفاقم الظاهرة.

التسول فى رأيه مرض اجتماعى ينبئ عن خلل فى المستويات المعيشية وتلبية الرغبات الإنسانية لدى فئات معينة بالمجتمع المصرى.

وشدد على ضرورة مكافحة هذا المرض ظاهرة بكل الطرق والأساليب وطالب بوضع تشريعات صارمة ورادعة لهم، وزيادة التوعية بخطورتها ومنع الناس من مساعدتهم حتى لا يشجعوا على استفحالها..

- قانونا التسول الصادرين عامى 1933 ورقم 31 لسنة 1974 فى رأى أحد رجال الشرطة لم يتطورا منذ صدورهما ولا يحققان الردع المطلوب ولهذا يجب إعادة النظر فى صياغتهما.

النساء يشكلن قوة ضاربة فى هذه الحرفة، إذ تبلغ نسبتهن 47% من أعداد المتسولين. وطبقًا لأستاذة علم الاجتماع الدكتورة سامية محمود فالمتسولون ليسوا بالضرورة من المعدمين، بل إنهم لا يكتفون عندما يحصلون على قوت يومهم.

وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة شن حملة لمكافحة التسول داخل المساجد، كونه ظاهرة تسىء لمصر وحضارتها وأماكن العبادة.

الدكتور طه أبوكريشة، نائب رئيس جامعة الأزهر الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء، يشدد على أنه يتعين على المسلم أن يتحقق من ظروف من يعطيهم صدقاته.