رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أثرياء مصر في الزمن الجميل

بوابة الوفد الإلكترونية

الرأسمالية الوطنية ليست دائمًا متوحشة. فى عقود مضت كان الأثرياء يتنافسون فى صناعة مشاريع قومية تبقى لهم خيرًا فى الدُنيا والآخرة.

لم يكن رجال الأموال بارعين فى إقامة مشروعات صناعية وزراعية وتجارية فحسب، وإنما برعوا كذلك فى مشروعات الخير.

كان زمنًا جميلًا باهرًا، وكان سلوك البشر لاشك مختلفًا ومعبرًا عن الانتماء والوطنية الحقيقية. لقد كانوا على قدر الوطن وآماله، وطموحات أبنائه، فقدموا الكثير مما يمتلكون لإسعاد الناس دون إجبار أو إرغام. كان هؤلاء شركاء فى البناء والتنمية والمشروعات العامة والخيرية التى مازالت قائمة حتى يومنا هذا.

انظر حولك، فى العاصمة وفى المحافظات المختلفة، فى الجنوب والشمال، فى الريف والحضر، وفى مختلف قطاعات الحياة ستجد أعمالا حاضرة ووجوها ناضرة أثرت العمل الاجتماعى فى مصر. انظر حولك ستجد جذورا عديدة لمشروعات عامة بدأها رجال ونساء بعضهم أثرياء وبعضهم متوسطو الثراء فى الصحة والتعليم والخدمات العامة ستجد أن بدايات كثير مما يلتف حولنا ولد فى مصر اعتمادا على أهل الخير من الاثرياء. كبارى ومُستشفيات ومدارس وجامعات ومراكز تأهيل نفسى ومصحات لمواجهة الأوبئة، ومشروعات لتشغيل النساء وتدريبها، كُلها قامت على التبرعات والهبات والأوقاف .

قصة جامعة القاهرة 

الأمثلة عديدة والحكايات طريفة وتستحق أن تروى فى زمن صارت فيه العمل الخيرى محدودا ومُحددا. يُحدثنا فتحى الحديدى فى كتابه «الأصول التاريخية لمؤسسات الدولة» كيف تبرعت الأميرة فاطمة كريمة الخديو إسماعيل وزوجة الأمير طوسون بمجوهراتها لبناء جامعة القاهرة. لقد بدأت الجامعة سنة 1908 فى سراى عُرفت بسراى جاناكليس وهى مقر الجامعة الأمريكية الآن، وكان مقر الجامعة مستأجرا وعلمت الأميرة فاطمة بذلك فقامت بالتبرع بستة أفدنة من أراضيها لإقامة الجامعة، ثُم تبرعت بكافة مجوهراتها للإنفاق على البناء. ويذكر الكاتب أن مجوهرات الأميرة تضمنت عقدا من الزمرد مُرصعا بأحجار الماس، و4 أساور من الماس البرلنت ومشتملاتها التى تضم 18 قطعة كبيرة و56 قطعة صغيرة وريشة من الماس، وعقدا محلى بأحجار الماس وخاتما مركبا عليه فص ماس، وقد بلغت قيمة المجوهرات نحو 70 ألف جنيه فى ذلك الوقت. وقبلها كانت بعض الأميرات قد تبرعن لإنشاء مدارس لتعليم البنات منهن مثلا الأميرة شهريت فزا والتى أنشأت مدرسة السيوفية.

الدمرداش لعلاج الفقراء

وفى قطاع الصحة تحضر قصة انشاء الأميرة قوت القلوب الدمرداشية لمُستشفى الدمرداش، وقد قدمت هذه الأميرة نحو 50 ألف جنيه ذهبا لإنشاء المستشفى لعلاج الفقراء مجانا، وقد شاركت فى تكلفة الإنشاء إحدى سيدات المجتمع القبطى وهى هيلانة سياج. والمُثير أن أعمال قوت القلوب الخيرية تعددت وتنوعت حتى أنها اوقفت مبالغ مالية على جوائز أدبية وثقافية وفنية، وكان الاديب العالمى نجيب محفوظ ممن فازوا بجوائزها فى بدايات حياته.

والحقيقة ان كثيرا من المشروعات الكبرى فى مجال الصحة والتعليم، كانت نتاج تبرعات للأمراء والأميرات والأسر الأستقراطية، وحتى فى أوقات الحروب والكوارث كان العمل الأهلى ينتفض من أجل جمع التبرعات ومن يطالع صحف ومجلات الثلاثينيات والأربعينيات، يجد كثيرا من لوحات الشرف التى يتم عملها للسادة المُتبرعين، فمثلا نجد لوحة شرف سنة 1950 تضم أسماء المتبرعين لمواجهة  منكوبى الكوليرا وفيهم أحمد عبود باشا 3500 جنيه وعلى أمين يحيى باشا ألفى جنيه، والأمير محمد على والذى تبرع بـ1500 جنيه، والأمير يوسف كمال ألف جنيه والأمير محمد عبدالحليم ألف جنيه والأميرة سميحة حسين ألف جنيه ووحيد يسرى باشا ألف جنيه وداوود عدس ألفى جنيه وشيكوريل ألف جنيه والمسيو أفينو عشرة آلاف جنيه وهكذا. وفى عدد آخر لمجلة المصور تطالعنا صور لمستشفى صيدناوى العام بعد قيام المليونير القبطى سمعان صيدناوى بتجهيزه.

مشروع القرش

وفى الحقيقة فإن مشروعات الخير لم تكن حكرا على الأثرياء، وإنما قاد بعض أبناء الطبقات الوسطى حملات تبرع لمشروعات قومية حققت نتائج طيبة. فمثلا كانت مصر تعانى من كساد شديد خلال الثلاثينيات من القرن الماضى، وهو ما دفع واحدا من الساسة الوطنيين وهو أحمد حسين زعيم مصر الفتاة إلى تبنى مشروع باسم القرش لدعم الصناعة المحلية. وكان شعار المشروع «تعاون وتضامن فى سبيل الاستقلال الاقتصادى»، وحظى بدعم حكومى كبير، وقدمت له حكومة إسماعيل صدقى باشا جميع التسهيلات .

ويكشف لنا  المؤرخ الكبير الدكتور يونان لبيب رزق، حال المجتمع المصرى الخارج من كبوة اقتصادية، والذى يعانى من ظروف بالغة السوء فى تلك السنوات دفعت الناس للتحلق حول مآدب ملكية تقام هنا وهناك طمعا فى الشعبية وحتى يظهر الملك  فاروق بوصفه المحسن المنعم، فيقول:

«وتحت عنوان‏‏ "فقراء العاصمة فى ضيافة جلالة الملك‏" نشرت الأهرام فى عددها الصادر يوم ‏16‏ أكتوبر سنة‏1940،‏ صورة لمحافظ العاصمة وسط الفقراء وهم يتناولون طعام الإفطار‏،‏ فقد أقيمت مأدبتان فى اليوم السابق إحداهما فى مدرسة النشارين بجزيرة بدران بشبرا‏،‏ والثانية بمدرسة حلوان الابتدائية‏،‏ قائمة الطعام‏:‏ قلقاس باللحم وأرز وفاكهة وحلوي‏، ومن طريف ما حدث فى مأدبة شبرا أن إحدى الفتيات عندما انتهت من تناول الطعام أخذت تنشد الأغنية الشعبية‏ (‏يا مليكنا تعيش لينا‏)‏ وزميلاتها يرددن هذه الأغنية بصوت مرتفع‏،‏ فلفت ذلك أنظار السكان الذين تشرف منازلهم على مكان المأدبة‏،‏ فتعالت الزغاريد من كل ناحية‏».

وهكذا فقد شهدت حكومة حسين سرى عام 1940 مشروعا قوميا تحت عنوان «مقاومة الحفاء» وقد شارك الملك فى دعم المشروع من خلال الإنعام على كبار المتبرعين برتب وألقاب، وهو ما يذكره الدكتور يونان لبيب بالتفصيل فيقول:

«بدأ ما أطلق عليه اسم‏ المشروع القومى لمقاومة الحفاء‏،‏ وبشكل مقصود وفى إحدى الزيارات العادية للملك فاروق بصحبة رئيس وزرائه‏،‏ أبدى الملك رغبته خلالها فى ألا يمضى وقت طويل إلا ويرى جميع رعاياه يرتدون النعال فى أقدامهم‏،‏ شأنهم فى ذلك شأن الشعوب المتقدمة‏،‏ وثنى على ذلك بتقديم هبة ملكية سخية مفتتحا بذلك باب التبرعات لتحقيق هذا المشروع‏. ‏ولقيت الدعوة استجابة كبيرة‏،‏ فقد كان مولانا صاحبها‏،‏ ففى مقال طويل تحت عنوان‏ "الحفاء‏"‏ كتبت جريدة السياسة الأسبوعية الناطقة بلسان الأحرار الدستوريين المتحالفين مع القصر وقتذاك مقالا افتتاحيا جاء فيه أن‏:

إن‏ الحفاء خلاف أنه سخرية وأضحوكة فهو مصدر

كبير لانتشار المرض‏.‏ فإذا انتشر المرض فى بلد من البلاد ضاعت سطوته‏،‏ وقل خيره‏،‏ وعم وباؤه وأضحى فى الحضيض بديل السمو والتهذيب‏.‏ وأضافت الجريدة معلومة جديدة فى هذه المناسبة، وهى أن الملك لم يكتف بإعطاء إشارة البدء فى حملة جمع التبرعات لمشروع مقاومة الحفاء‏،‏ بل إن القصر أعلن عن نيته منح ألقاب الباشوية والبكوية لمن يزيد تبرعه علي مبلغ معين‏،‏ وعبرت جريدتنا عن أن مثل هذا الوعد سيشجع حركة التبرعات لأن المصرى يحب الظهور ويميل إلى الرتب والنياشين‏».

الوفد وأسبوع الشفاء

ومثل مقاومة الحفاء أطلق الوفد سنة 1943 مشروعا بعنوان أسبوع البر وقد رعته السيدة زينب الوكيل حرم مصطفى باشا النحاس. ويحكى  مصطفى النحاس باشا تفاصيل مشروع البر فى رده على سؤال للنائب  عبدالمجيد الرملى خلال رده على سؤال بشأن المشروع فيقول:

«لقد نبتت فكرة اسبوع البر عند السيدة حرمى فى أوائل قيام الوزارة سنة 1942 بمناسبة عيد الجلوس الملكى وصادفت لدينا قبولا إذ رأينا أن وزارة الشعب كعهدها على الدوام جديرة بألا تقصر جهودها فى خدمة الشعب على الميدان الحكومى، وأن من واجبها أن تدعو القادرين والموسرين من أجانب ومصريين إلى المساهمة فى عمل خيرى كبير يبقى ذكره ويدوم اثره ليخفف عن الطبقات الفقيرة بعض ما تقاسيه من شظف العيش وشدائد الحياة.

ومع استطاعتنا جعل ذلك المشروع وفديا لحما ودما، فإننا لم نشأ كما لن نشأ أن نلبس الخير لباس الحزبية أو رداء الجنسية فدعونا لرعايته ووضع خطته والإشراف على جمع تبرعاته واقامة حفلاته لجنة تمهيدية من كرائم السيدات وأفاضل الرجال، فكان فيها من السيدات حرم مصطفى النحاس والليدى لامبسون ومدام كوتسيكا ومدام قطاوى باشا ومدام الفريد ليان وحرم عبود باشا وحرم يوسف صيدناوى.

وطبقا لتعليق الدكتور يونان لبيب رزق فإن «المشروع اعتمد على تخصيص أسبوع لجمع التبرعات من خلال الحفلات التى تنظم ثلاث حفلات تمثيلية وحفلة شاى كبرى فى حديقة فندق مينا هاوس‏،‏ ويخصص يوم لبيع شارات خاصة ويوم للسينما‏،‏ وأصدرت اللجنة بيانا جاء فيه‏: إن واجب التضامن الاجتماعى اليوم جوهرى علينا‏،‏ فلنتقبل هذا الواجب بجد وإخلاص‏،‏ ذاكرين أننا إذا جدنا بالنذر اليسير من أموالنا وبأقل فتات من موائدنا نكون قد اتبعنا الشرائع السماوية والإنسانية معا‏.‏ ويضيف قائلا : « البداية كانت غريبة‏،‏ بمائة قرش بالتمام والكمال بعث بها صاحب أحد محال بيع الثلج‏،‏ واسمه على أبو زيد‏.‏ وتتالت الاقتراحات الرامية إلى زيادة حصيلة التبرعات بإصدار طوابع من ذات القرش، وذلك حتى يقوم كل فرد بنصيبه فى المشروع الجليل فلا يقتصر الاشتراك على القادرين وحدهم‏.‏ ودعا خطيب مسجد عزبان إلى توزيع صناديق على جميع المساجد‏،‏ خاصة الشهيرة منها لجمع التبرعات من المصلين يوم الجمعة‏.‏ وعلى المستوى الفردى أيضا تبرع قلينى فهمى باشا بقطعة من الأرض مساحتها‏5000‏ متر لتشيد عليها وزارة الصحة مستشفى فى بندر مغاغة‏،‏ وقد قدر مجلس المديرية ثمن هذه الأرض على أساس جنيه واحد للمتر‏.‏

وانهالت التبرعات بعد ذلك من المؤسسات‏: شركة السكر‏:‏ ألفي جنيه‏،‏ بنك مصر‏:‏ ألف جنيه‏،‏ شركة هليوبوليس‏:300‏ جنيه،‏ وشيكوريل‏:200جنيه. وضمت القائمة الثالثة محال الشوربجى ومحال صيدناوى وشركة ترام القاهرة‏،‏ وعلى نفس المستوى كانت حركة التبرعات للأسبوع فى الإسكندرية تجرى على قدم وساق‏،‏ حتى أنه تم جمع ‏16‏ ألف جنيه خلال فترة قصيرة‏.‏

وقد أسهمت الجالية اليونانية إسهاما قويا فى حركة التبرعات‏،‏ فقد استقبل النحاس باشا يوم‏19‏ مايو المسيو ألكسندر سيرباكس من كبار أعيان هذه الجالية الذى قدم له ألف جنيه لأسبوع البر‏.‏ والأهم من ذلك رئيس الوزراء اليوناني‏،‏ المسيو تسوديروس‏،‏ الذى كان فى زيارة لمصر فتبرع بألف جنيه مرفقا بها كتاب رقيق إلى حرم النحاس باشا‏.‏

 أما خاتمة الاحتفالات كانت فى حفل الشاى الذى أقيم فى فندق مينا هاوس حيث تصدرت المائدة الرئيسية زينب هانم الوكيل‏، وأخذت المتطوعات من فضليات السيدات والآنسات فى بيع الورود وجمع التبرعات‏،‏ وبلغ ما تم تحصيله فى هذه المناسبة ‏232‏ جنيها‏.‏