رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

ابراهيم العريس يكتب : المصرية لفان دونغن: الهولندي المحدّق بين باريس والقاهرة

ابراهيم العريس
ابراهيم العريس

منذ استقر في باريس مبارحاً وطنه الأصلي هولندا، على خطى سلفه الكبير فان غوغ، لم يتوقف كيس فان دونغن عن زيارة الشمال الأفريقي بين الحين والآخر، حيث دائماً ما كان يعود من هناك بلوحات وأفكار وبخاصة بألوان نطبع تجدداً نسبياً في أساليبه وأشكاله، ولكن من دون أن تبارح موضوعه المفضّل: المرأة. فالمرأة كانت وظلت موضوعاً أثيراً لدى هذا الفنان: يجرب عليها ألوانه وخطوطه وحتى أوضاعه السيكولوجية الخاصة. ثم بخاصة «علاقته» مع الرقابة التي كانت تتساهل معه أحياناً، ولكن تكف في بعض الأحيان عن تحمّله وتحمّل «إباحية» نسائه العاريات، حتى وإن كان النقاد أكدوا دائماً أن «العري في لوحات فان دونغن ليس عرياً، بل حالة سيكولوجية خاصة». مهما يكن، في العام 1913 وسّع فان دونغن بيكار تجواله الشمال أفريقي ليزور مصر هذه المرة حيث أقام ردحاً في القاهرة ومنها أرسل الى صالون المستقلين الباريسي ثلاث لوحات أنجزها هناك. لكن الرقابة سرعان ما سحبت واحدة من تلك اللوحات عنوانها «الحمامات» لـ «إفراطها في الإباحية» وذلك وفق قول رئيس الحكومة الذي إذ دعي الى الإفتتاح، فوجئ باللوحة العارية فانتقد من دعاه الى المعرض وأرسل الشرطة تسحب اللوحة.

> لكن «الحمامات» لم تكن الأجمل بين لوحات فان دونغن «المصرية» الثلاث. الأجمل كانت لوحة بالغة الاحتشام وفق تعبير النقاد. بل كانت الأكثر احتشاماً بين كل لوحات فان دونغن. وكيف لا تكون كذلك وعنوانها «المصرية» ويبدو أن الرسام حققها انطلاقاً، إما من مجموع مشاهداته في القاهرة، وإما انطلاقاً من موديل حقيقية تعرّف إليها هناك. مهما يكن، لا بد من ملاحظة أن تلك اللوجة تكاد تكون الأكثر جمالاً واكتمالاً بين بورتريهات فان دونغن النسائية. ويأتي جمالها أولاً من تركيبها والزاوية التي اختار الرسام أن يلتقط موديله منها. ولكن بخاصة من الألوان «الحارة» الى حد الإفراط حيث تتراوح بين البرتقالي والبني والأحمر والوردي والأصفر. بيد أن الأهم من ذلك كله إنما هو التعبير الذي تمكن فان دونغن من التقاطه تعبيراً مدهشاً على سمات إمرأة وديعة الحسن حزينته. إمرأة تجعل نظرتها عينيها تبدوان وكأنهما تلتهمان وجهها التهاماً غير عابئتين على الإطلاق لا بحضور الرسام إذ يرسمها، ولا بحضور أيّ مُشاهد للوحة يحدق بها مأخوذاً. إنها تبدو غائصة في عالم خاص بها (عالم من القهر؟ أم عالم من الإنتظار الأليم اليائس؟ أم تراه عالماً من ضجر يساهم ساعداها في رسم ملامحه؟)

> «المصرية نالت إعجاباً فورياً. هي التي كانت جزءاً من مجموعة أعمال بديعة صورها فان دونغن مستوحياً الشرق وصولاً الى رسوم وضعها العام 1918 لطبعة جديدة من ترجمة الدكتور ماردروس لـ «ألف ليلة وليلة».

> لقد ترجمت تلك اللوحة وبقة الأعمال الشرقية، إهتمام فان دونغن بالشرق، لكنه كان قبل ذلك قد انشدَّ الى باريس، مثل كثر من الرسامين الهولنديين من قبله ومن بعده. فما الذي كان يشد معظم الرسامين الهولنديين الموهوبين الى فرنسا، باريس أو غيرها، في تلك المرحلة الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين؟ في هذا السياق أول ما يرد هو بالطبع اسم الفنان الأشهر فنسان فان غوغ. لكن فان غوغ لم يكن الوحيد الذي انتقل من صقيع هولندا الى رحابة الأرض الفرنسية. في وسعنا بالطبع ايراد اسماء عدة، ولكن، حسبنا هنا أن نذكر فان دونغن، الذي لن تكون له بالطبع شهرة فان غوغ ولا أهميته في تاريخ الفن التشكيلي. ولكن ستكون له مكانة خاصة بين أقرانه من جماعة «الضواري» كما في مرحلة ما - بعد - الانطباعية. فان دونغن، الهولندي الأصل، الفرنسي الجنسية منذ شبابه، والذي عاش آخر سنوات حياته في موناكو، وفيها مات في العام 1968، عن عمر يناهز الحادية والتسعين.

> ولئن كان فان دونغن سيُحسب دائماً في خانة ما، مثله مثل غيره من رسامي أوروبا، حيث ندر لفنان أوروبي أن أفلت من لعبة التصنيف، طوال حياته او خلال مراحل منها، فإنه سيحوز على مكانة خاصة به، وسيعتبر دائماً كطائر حلّق خارج سربه. فمثلاً، لئن مال النقاد ومؤرخو الفن الى اعتبار فان دونغن جزءاً من حركة «الضواري» التي تضمه بخاصة مع فلامنك وديران، فإن الواقع يقول لنا أنه رسم لوحاته المنتمية الى هذا التيار، قبل سنوات من ولادة التيار، وقبل أن يتعرف الى زميليه. ولئن كان قبل ذلك قد اعتبر جزءاً من حركة «داي بروكه» فإن الواقع أيضاً يقول لنا إنه حين رسم لوحات تؤهله لمرافقة هذه الحركة، لم يكن أصلاً عالماً بوجودها.

> على الهامش كان فان دونغن، دائماً، على الهامش: دائماً بين تيارين، وبين عالمين، وحتى بين وطنين. والطريف أن أشهر لوحة بين لوحات مرحلته الأولى كانت تحمل عنوان «الفلاحون» - بالعربية - كما أن أشهر بورتريه رسمه كان ذلك الذي مثل اناتول فرانس، الكاتب الفرنسي الشهير. واللافت

ان فان دونغن صرف جزءاً كبيراً من طاقته، في رسم «بورتريهات» للعديد من أشهر وأهم الشخصيات الأوروبية، من رجال الفن والأدب، ولكن أيضاً من رجال وسيدات المجتمع.

> لكن فان دونغن لم يكن رسام وجوه أولاً وأخيراً، بل كان رسام ألوان. ولعل في الإمكان اعتباره واحداً من أبرز «الملونين» في القرن العشرين. فهو اذا كان تعلم من سلفه الكبير فان غوغ شيئاً أساسياً فإنه تعلم منه استخدام الألوان الحيوية وبكثافة، ناهيك عن أنه أخذ عن معلمه الثاني، الفرنسي هنري دي تولوز لوتريك، فن احلال الألوان محل الخطوط. وهكذا، في لوحاته، وعلى مدى مساره الفني كله تقريباً، أعطى فان دونغن المكان الأول للون، فكانت لوحاته عرس ألوان.

> ولد كيس فان دونغن (واسمه الأصلي كورنيليوس ثيودوروس دونغن) في مدينة روتردام أو في إحدى ضواحيها في العام 1877، وفيها تلقى دراسته الابتدائية والثانوية، ثم اكتشف ميله الى الفن التشكيلي فلم يلبث، وكان في العشرين من عمره، أن رحل الى فرنسا، التي لن يبارحها بعد ذلك إلا في شكل متقطع، عودة الى هولندا لأسابيع مثلاً، أو جولة في شمال أفريقيا رسم خلالها لوحات استشراقية عدة منها «المصرية» التي نتحدث عنها هنا ومنها «الفلاحون» التي أشرنا اليها والتي حققها في العام 1912، وهو لئن كان قرر لاحقاً في حياته أن يبارح فرنسا، فإنه سيتجه الى موناكو ليعيش ويموت فيها.

> عندما وصل فان دونغن الى باريس، كان معدماً وفتياً ولا يعرف أحداً، ومع ذلك قيّض له أن يقيم من فوره في مونمارتر، مركز الفن الفرنسي في ذلك الحين، وكان من حظه أن تعرف بسرعة الى تاجر الفن فولار، الذي سرعان ما نظم له معرضاً لأعماله، مكّنه في العام التالي أن يعرض في صالون باريس كواحد من جماعة «الضواري» التي كان قد اكتشف فيها قرابة ما بين أعماله وأعمال أفرادها.

> منذ بداياته جعل فان دونغن الألوان تطغى على عمله وتميّز بهذا، ولا سيما بحلول اللون كبديل عن أي عنصر آخر تغتني به اللوحة. أما انطلاقته الأساسية فكانت في صالون 1905 حيث عرض لوحتين لفتتا الأنظار حقاً («صورة ذاتية» و «المهرج»)، وبعد ذلك حقق سلسلة من المناظر الطبيعية التي رسمها بين جنوب فرنسا وشمال أفريقيا، ومن بينها لوحات بحرية كان لها وقع طيب لدى الجمهور، لا سيما لدى نخبة الحياة الاجتماعية فازداد الإقبال عليه، بحيث انه سرعان ما أصبح رسام بورتريهات لمشاهير المجتمع الفرنسي، والكبار الآتين فرنسا في زيارة. ومنذ ذلك الحين لم يعد عليه إلا أن يطور تقنياته، من ضمن توجهاته نفسها، ويتجلى هذا مثلاً في لوحة شهيرة له بعنوان «السيدة ذات القبعة السوداء». ومنذ العام 1912 مع بعض التخفيف من وطأة الألوان لمصلحة شيء من البناء الهندسي، واصل فان دونغن انكبابه على العمل الذي لم يتركه حتى سنواته الأخيرة، من دون أن يطرأ على ذلك العمل أي تبديل يذكر، فكان واحداً من أكثر فناني القرن العشرين ثباتاً، حتى (وان كان بعض أعماله في سنوات الثلاثين قد حمل شيئاً من الاستفزازية) ومن هنا قال عنه مؤرخو الفن أنه ظل حتى نهاياته الفنان الأكثر انغلاقاً على ذاته.

 

 نقلا عن صحيفة الحياة