عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

طالبة تتدرب على التشريح فى جثة شقيقها

بوابة الوفد الإلكترونية

- اللهم رد لى ابنى.. اللهم فرح عينى وقلبى برؤيته.

هكذا لهج لسانها وارتفع كفاها فى تضرع راح يهتز له جسدها بأكمله ولم تلبث أن انهارت  فوق سجادة الصلاة في بكاء منتحب زلزل كيانها.

انتزعت «مريم» نفسها من ذلك الحزن الذى سكنها، وهى ترقب صلاة أمها وتضرعها، وهرولت نحوها فى لهفة، انحنت تلتقط كفيها وتغمرهما بقبلات ساخنة وهى تردد:

- سوف يعود يا أمى.. قلبى يحدثنى بأننا سنراه قريباً.

أومأت أمها برأسها وحاولت أن تبتلع دموعها وتغتصب ابتسامة زائفة حتى لا تعكر على ابنتها صفو يومها.

- إن شاء الله يا ابنتى.. إن شاء الله.

قالتها وأشاحت بعينيها بعيداً عن عينى ابنتها، لتخفى نداء خفياً يغمر قلبها بأنها لن ترى ابنها ثانية.

عادت «مريم» لتطبع على كف أمها قبلة حنوناً، وتلتقط حقيبتها وتنصرف عنها مودعة، لتعود أمها تلهج بدعائها تاركة العنان لدموعها.

تثاقلت «مريم» فى خطواتها نحو باب البيت، وأطرقت فى حزن، وقد شردت بفكرها بعيداً.. إلى ثلاث سنوات خلت، «إياد» ذلك الأخ الذى رغم سنين أربع يكبرها عنها، إلا أنه كان يحمل بين ضلوعه قلب أب طالما ساند طموحها وساعدها على تحقيق حلمها بأن تلتحق بكلية الطب، وها هى ذى فى الفرقة الثالثة منها، ولم يبق سوى سنوات معدودة ويصبح الأمل واقعاً.

ولكن.. أين هو.. أين «إياد» ليفرح معها بثمرة حلمهما.

ترقرقت دمعة حارة فى مقلتها، وهى تذكر كيف حلت الكارثة عليهم عندما علموا أن أخاها قد تم اعتقاله سياسياً، بل تذكرت كيف كان القهر يعتصرها عندما عرفت أنه تم إيداعه سجن صيدنايا العسكرى سيئ الصيت.

زفرت فى أسى وأزاحت تلك الدمعة المتسللة إلى وجنتها.

وتمتمت فى ألم:

- آاااااه يا سوريا.. آه يا وطن حرمت فيه من وطنى.

أجفلت واتجهت نحو كليتها يجرها قهر ذليل.

* * *

تكاسلت فى ضيق وهى تتجه بخطوات مترددة وسط حشود من زملائها نحو قاعة التشريح.

كم تكره تلك المادة التى تجبرها على التخلى عن طبيعتها الأنثوية لتعبث بمشرطها فى تلك الجثث البشرية.

طبيبة.. نعم.. هكذا تحلم أن تكون، لكن بعيداً عن الجثث وتلك الوجوه الباهتة التى تخبئ تاريخاً تجهله وتحمل أحلاماً ووعوداً لم يمهلها القدر لتتحقق.

معادلة لم تقدر على حلها يوماً.

- اضحكوا بعبكن رح تشوفوا جثث جديدة اليوم.

همس بها عامل المشرحة ومضى بعد رسم ابتسامة جافة دب الخوف والارتباك فى قلب «مريم».

فتشبثت بيد صديقتها وتبادلت معها نظرات قلقة.

سنرى جثة جديدة بعد أن اعتادت أعيننا تلك الجثث المهترئة التى تفوح منها رائحة الفورمالين، والتى مال لونها إلى السواد من كثرة ما مر عليها من سنوات.

دلفت بين الحشد إلى القاعة، أبصرت عيناها الجثة ممددة على طاولة التشريح، انتفض قلبها بين ضلوعها وهى تراها ملفوفة بقماش أبيض على عكس ما اعتادوا عليه من هيئة الجثث.

- اليوم عندنا جثة طازة، ما باس تمها إلا أمها، انتوا من الطلاب المحظوظين كتير.

هكذا هتف الدكتور، فازدادت التصاقاً بصديقتها، وازدادت دقات قلبها على نحو مفزع، فرفعت

يدها طالبة الإذن بالانصراف، إلا أن الدكتور رفض طلبها قائلاً:

- يجب أن تكونى أكثر تماسكاً يا «مريم»، فاليوم تشرحين أمواتاً وبعد سنوات قليلة ستشرحين أحياء.

لاذت بالصمت مجبرة، بينما راح الدكتور يقول فى حماسة إنه سيراجع مراجعة شاملة لبعض الأعضاء التى لم تكن واضحة فى العينات التشريحية البحثية السابقة.

ثم أزاح القماش الأبيض عن وجه الجثة وراح يزيحه عن الجسد كله و.....

انتفض كيانها بعنف، واتسعت عيناها فى ذهول، انحنت تقترب برأسها من وجه الجثة، حتى غشيت رئتيها رائحتها، مدت أصابع مرتعشة تتلمس تلك الملامح وكأنها تكذب عينيها، ولم تكد تفعل حتى ارتدت فى عنف وكأن صاعقاً أصابها.

من؟.. مستحيل.

إنه هو.. «إياد».. أخى.. لا.. بل ليس هو.

عادت لتحدق إليه أكثر، تلك الملامح لا يمكن أن يخطئها قلبى مهما مرت عليها السنون واعتراها من ألم.

أخى.. أخى.

صرخ بها قلبها بينما انعقد لسانها.

انهارت فوق جثته تنتحب فى لوعة، احتضنت جسده بين ذراعيها وكأنها تحتضن عمراً مضى، وجرحاً عز على الشفاء، وبكل قهر الدنيا ووجعها وثورتها راحت تصرخ:

- آاااااااااااه.

أفاقت على أذرع زملائها تنتزعها من فوق الجثة والدكتور يصيح:

- ماذا أصابك؟.. وكيف ستصبحين طبيبة وأنت لا تستطيعين تمالك أعصابك أمام جثة؟

أطلت من عينيها نظرة خاوية، وكأن الكون كله قد دفن بين جفونها.

كادت أن تصرخ إنه أخى.. أخى المعتقل الذى لم نكف يوماً عن الحلم بعودته أنا وأمى كل صباح و...

افتر ثغرها لتنطق، إلا أن صمتاً أطبق عليها.. لن أسلم أنا وأمى إن نطقت بالحقيقة.

دفنت قهرها في صدرها و....

وسقطت مغشياً عليها.

أفاقت لتجد نفسها بين ذراعى صديقتها تحملهما سيارة متجهة صوب المنزل.

رفعت رأسها، والتفتت تنظر نحو مبنى كليتها للمرة الأخيرة، وقد ابتلعه الأفق واختفت معالمه مع ابتعاد السيارة، تاركة بداخله حلماً طالما ناضلت لتحقيقه و...

وجسداً تعبث به أيدى زملائها ويمنعها العجز عن إيقافهم.

نظرت أمامها فارتسم بعينيها مشهد أمها وهى ترفع أكف الدعاء بعودة ابنها.. فعادت تنتحب فى قهر.