رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عبدالرحمن الأبنودي.. عاش 16 سنة مع المرض بانتظار الموت

بوابة الوفد الإلكترونية

رأيته يبكي مرة واحدة.. عندما سمع نبأ رحيل الشاعر محمود درويش

وصيته الأخيرة "خدوا بالكم من بعض.. واوعوا تزعلوا نهال"

لم يكن حزيناً بخلفة البنات.. وكان يقول: «لو خلفت صبيان كنت معرفتش أربيهم»

كان يعد لنا الطعام بنفسه في بيت الإسماعيلية.. ويسأل: تحبوا أكل إيه؟

ساعات أحتاج إليه.. فأقول بينى وبين نفسى «فينك يا أبو قلب أخضرانى»

 

قالوا يا عبدالرحمن

وقدرت تموت

وتفوت..

اللحم العاري المتهان

في المدن اللي معداش منها ريحة إنسان

أنا مت

<>

الموت علينا حق.. لكن إذا كان كل حي يموت.. فمن المؤكد ان هناك بشرًا غير البشر، تموت- كجسد وروح- لكن تبقى فكرة تعيش، تبقي لحسن نسمعه، تبقى معنى نفهمه، تبقى تاريخًا نقرأه، تبقى حلمًا يعيش بيننا، تبقى أعمالًا، وإبداعًا، وأوجاعًا مرسومة بإتقان على جسد الوطن، يبقى رغم الرحيل «الخال» عبدالرحمن الأبنودي- بإبداعه- ما بقيت الحياة.

قبل أن أكتب هذا الموضوع، أعدت قراءة قصيدة «الأحزان العادية»، و«ضحكة المساجين»، و«أيامنا الحلوة»، ودخلت على مواقع التواصل الاجتماعي واستمعت لـ«الأبنودي» وهو يقرأ أولى رسائل «الأسطى حراجي» لزوجته فاطنة:

الجوهرة المصونة

والدرة المكنونة

زوجتنا فاطنة أحمد عبدالغفار

يوصل ويسلم ليها

في منزلنا الكائن في جبلاية الغار

أما بعد..

لو كنت هاودت كسوفي

ع التأخير

سمحيني يا فطنة في طول الغيبة عليكم

وأنا خجلان.. خجلان

وأقولك يا زوجتنا أنا خجلان

منكم من هنا للصبح

واستمعت لأغنية «عدوية»، ودندنت علي نغمات «عيون القلب»، وجلست صامتاً طويلاً أمام «السيرة الهلالية».

<>

في قريتنا كان يأتي كل عام رجل يجر وراءه حمارا وعلي كتفه ربابة. وما إن يدخل القرية؛ إلا ويبدأ كالتالي:

بعد المديح في المكمل

أحمد أبو درب سالك

نحكي في سيرة وأكمل

عرب يذكروا قبل ذلك..

ثم يدور ويلف دروب القرية ونحن أطفال من خلفه نردد علي صوت الربابة:

ويا آآه.. يا عيني علي آه

يابا.. آه يا عيني علي آه..

كنا نفعل ذلك بأصوات مرتفعة تقلق مضاجع أهالينا وهم نائمون- من هدة الشغل في الحقول- لمدة ساعة أو أكثر وقت القيلولة. ولم يكن ينفض هذا الحفل الغنائي علي صوت الربابة، إلا بخروج أحد أهالي القرية- اسمه الحاج خلف- وهو يطاردنا محاولاً الفتك بنا، بعدما «طار» النوم من عينيه بسبب «قصة أبو زيد الهلالي» التي يتغني بها شاعر الربابة الذي يدور ويلف علي بيوت القرية- متسولاً بالموسيقي والشعر- ونحن نغني من خلفه. وفي لحظة يباغتنا «عم خلف» ويخرج علينا وهو يصرخ: امشي يا واد انت وهو من هنا.. عايزين نريح شوية، ثم يكمل كلامه قائلاً: الله يخرب عقلك يا عبدالرحمن يا أبنودي انت اللي واجع دماغنا بحكاية أبوزيد الهلالي دي!

<>

هذه القصة قلتها ذات مرة «للخال» وأنا معه في الإسماعيلية، حيث كنت أجري معه حواراً صحفياً ضمن لقاءات متعددة كانت بيننا. يضحك بعدما أحكيها له ويقول:

«يخرب بيت عمك خلف ده.. كان حد قاله ينام الضهرية»، ثم يواصل ضحكته ويقول: الحقيقة كانت السيرة الهلالية «هوس» يجتاح الريف المصري، خاصة قري الصعيد.

<>

«أبي.. الذي لا يعرفه أحد».. هذا هو عنوان هذه السلسلة الحوارية. طلبت الإعلامية القديرة «نهال كمال»- زوجة الخال- حتي أتواصل مع ابنته الكبري «آية»، وقد كان.

بترحاب شديد، وبرغبة واضحة، وجدت «آية» تريد أن تتحدث، وكأن «أباها» وحشها.. وتريد الكلام معه. تريد أن تعيد شريط حياته، تريد أن تسمع صوته، وهو يخرج من داخلها.

قلت: ما الذي لا نعرفه عن الخال «الأبنودي»؟

كشاعر، ومبدع، وكاتب، وفنان، أظن كل شيء عنه معروف، «الأبنودي» الشاعر- فيما أعتقد- يعيش في كل بيت، في كل مدرسة، في كل جامعة، يعيش في وجدان كل عامل أرسل نيابة عنه معاناته وأحلامه ومشاعره في رسايل حراجي القط لزوجته فاطنة في جبلاية الغار، يعيش «الأبنودي» في أشعاره الوطنية والقومية والعاطفية، هل تتخيل أن يحب شاب أو فتاة ويفتح أي حبيب منهما شبابيك حبه، دون أن يدندن.

عيون القلب سهرانة ما بتنمشي

لا أنا صاحية.. ولا نايمة مبقدرشي

تبات الليل.. تبات سهران علي رمشي

وأنا رمشي ما داق النوم

وهو عيونه تشبع نوم

روح يا نوم من عين حبيبي

روح يا نوم

- قلت: عندك حق!

<>

ولد الخال في 11 إبريل عام 1938 في محافظة قنا، ورحل في 21 إبريل 2015، لم يكن «الأبنودي» يخاف الموت، هكذا تقول «آية»: الحقيقة وأنا أنظر لحياته خاصة في السنوات الأخيرة، أجده وكأنه لا يخاف الموت، بالعكس هو ينتظره في ترحاب شديد، ينتظره رغم ضحكه الدائم، ونشاطه المستمر، وإبداعه المتواصل، يوم رحيله، والنعش الذي يحمل جسده يمر أمامي، كنت في نفس اللحظة- بالتوازي- أمام شريط قصيدته «الأحزان العادية» التي يقول فيها قالوا يا عبدالرحمن وقدرت تموت، ثم يقول في القصيدة:

بتداري إيه؟

إيه باقي تاني علشان تبقي عليه

وطنك متباع

سرك متذاع

الدنيا حويطة.. وأنت بتاع

كان الجميع حولي مهتمين بمشهد الجنازة، وكنت أنا- ربما الوحيدة بينهم- المهتمة بكلماته عن الموت، وبقوته، وصلابته، في استقباله.

- هل تتذكرين الأيام الأخيرة في حياته؟

< كان="" يتعامل="" معنا،="" ونحن="" نتعامل="" معه،="" علي="" أنها="" وعكة="" صحية="" وستمر،="" كنا="" في="" بيت="" الإسماعيلية،="" وهو-="" رغم="" المرض-="" يبتسم،="" ويتكلم="" معنا،="" ثم-="" وكأنه="" شعر="" بقرب="" النهاية-="" بدأ="" يوصيني="" ومعي="" شقيقتي="" نور="" علي="" ماما.="" يقول:="" خلوا="" بالكم="" من="" نهال.="" أنا="" لم="" أطلب="" منكما="" أي="" طلب="" قبل="" ذلك،="" لكن="" هذا="" هو="" طلبي="" الوحيد.="" ثم="" تتوقف="" «آية»="" لحظات="" عن="" الكلام،="" وكأنها="" تحاول="" كبح="" حالة="" الحزن="" بداخلها،="" ثم="" تعاود="" الكلام="" قائلة:="" انتقلنا="" من="" البيت="" إلي="" المستشفي،="" وهناك="" ظل="" علي="" حالته="" معنا،="" يتكلم،="" ويحكي،="" ويحاول="" الهروب="" من="" ألم="" المرض..="" ظل="" هكذا="" حتي="" دخل ="" في="" غيبوبة="" الرحيل="" حتي="">

<>

ـ هل كان موته صادماً بالنسبة لك؟

لا.. نحن كأسرة الأبنودي نعيش مع الموت من 16 سنة تقريباً، منذ بدأ المرض يهاجمه، منها حوالي 8 سنوات، انتقل فيها من منزل المهندسين الي بيت الاسماعيلية، كنا  نشعر أن  الموت ينام معنا في البيت، يجاوره في الاسماعيلية، لكن هو كان دائماً قوياً، صلباً، يعمل،  ويقرأ، ويكتب ويضحك، ويعمل لنا الأكل في زيارتنا الأسبوعية له من كل أسبوع أيام الدراسة.

ـ هل كان يقف في المطبخ؟

< بنفسه،="" ويشرف="" علي="" الطعام،="" وكان="" قبل="" وصولنا="" بيوم="" أو="" اثنين="" يتصل="" بنا،="" ويسأل="" «أعمل="" لكم="" إيه="" يرم="" عضمكم="" يا="" ولاد». ="" وكنا="" عندما="" نعود="" من="" الاسماعيلية="" في="" مساء="" يوم="" الجمعة،="" كنت="" أشعر="" بحزن،="" ونفسي="" «ألف="" وأرجع="" تاني».="" لكن="" ارتباطنا="" بالدراسة="" ومن="" بعدها="" العمل،="" وهو="" كان="" يصر="" علي="" أن="" نمارس="" حياتنا="" بصورة="">

ـ نور أصغر منك.. أليس كذلك؟

< أصغر="" مني="" بـ="" 7="" سنوات.="" فأنا="" عمري ="" 27="" عاماً.="" وكنت="" طفلة="" "شقية"،="" وهو="" وماما ="" معاً="" اختارا="" أسامينا="" آية="" ونور="" كل="" اسم="" من="" ثلاثة="" حروف="">

<>

عشت لحد ما شفتك

عجزت ياعبدالرحمن

وقالوا.. قال خلفت

وأنت عجوز خلفت يا أخوي؟

وبنات!؟

أمال كنت بتعمل إيه

طيلة العمر اللي فات؟

سألت آية.. ألم تشعري يوماً بأن بداخله نفس إحساس «عمته يامنة» تجاه الخلفة البنات؟

تقول: إطلاقاً.. من حيث المبدأ أبي لم يكن في «دماغه» أصلا الأولاد، لا صبيان ولا بنات. الفكرة دي مكنتش أبداً في ذهنه. ثم لا تنس أن العمة «يامنة» ردت علي نفسها في القصيدة قالت:

«أهي ريحة من ريحتك ع الأرض.

يونسوا بعض

سميتهم آية؟

قالوا لي: آية ونور

ما عارفشي تجيب لك حتة واد؟

وألا أقولك

يعني اللي جبناهم

نفعونا في الدنيا  بإيه

غيرش الإنسان مغرور

قلت: هذه فلسفة حياة أنجزتها ولخصتها «العمة يامنة» في كلماتها "يعني اللي جبناهم.. نفعونا في الدنيا بإيه"! ترد آية: الفلسفة هنا، والفكرة نفسها كانت عند «أبي» هو أراد أن يرد علي فكرة البنت والولد، ويقول إنه لا يوجد فرق، بالعكس كان دائماً يقول: لو  كان عندي صبيان يمكن كنت فشلت في تربيتهم علي عكس تربية البنات، كان يقول: كنت هلمهم ازاي من الشوارع؟

ـ قلت.. هل كان له فلسفة خاصة في التربية؟

تقول آية: الحرية.. هو ترك لنا حرية  الدراسة، وحرية  اختيار سكة الحياة.. وهنا يجب أن أقول إن العبء الأكبر في التربية، والتعليم، كان من نصيب ماما «نهال كمال» تحملت منا الكثير، وكان أبي يقول ذلك،  وكان يساندها، وإذا ازدادت قوتها معنا، كنا نلجأ اليه، فيحقق لنا ما  نريد.. وأنا كنت في سنوات الاسماعيلية يومياً معه علي الهاتف من الصباح الي الليل، أكلمه وأناقشه، وأطرح عليه ما لدي من أفكار وخطط وكذلك أختي «نور».

ـ هل حدث أنك وجدته متلبسا بدمعة  تنسال علي وجهه؟

ـ كان من الصعب أن يبكي ورأيته مرة واحدة يبكي، عندما استمع في التليفزيون لخبر رحيل صديقه الشاعر الفلسطيني محمود درويش. وقبل أن يكمل سماعه للخبر، بدأ البكاء، وحزن علي رحيله، بشدة، ونحن ـ كأسرة ـ أصابنا جميعاً الحزن. لقد كان الشاعر محمود  درويش صديقا للأسرة، عندما يأتي للقاهرة كان دائماً معنا، ولا يفارق أبي مطلقاً. الأبنودي كان كتلة مشاعر.. صحيح هو راجل صعيدي. وكما تعلم مشاعر أهلي الصعايدة جامدة الي حد ما، لكن قلب الابنودي كان كله مشاعر، مشاعر الفعل وليس القول، وكيف لا يكون كذلك وكل إبداعه مشاعر،كيف لا يكون كذلك، وهو بجد صاحب القلب الأخضراني.

ـ متي شعرت أنه «مبسوط»  منك بعمل انت قمت به؟

< عندما="" ألقيت="" علي="" مسامعه="" أبياتا="" كثيرة="" من="" أشعاره.="" وكان="" عمري="" وقتها="" 16="" سنة. ="" يومها="" انبهر="" بي،="" وكان="" سعيدا="" جداً.="" وسر="" فرحته="" انه="" كان="" يعتقد="" أنني="" لا="" أحب="" أشعاره..="" لكن="" عندما ="" وجدني="" أحفظ="" أغلب="" أعماله="" من="" تلقاء="" نفسي="" كان="" في="" قمة="" السعادة.="" وأنا="" بعدها="" سافرت="" معه="" الي="" دول="" عربية="" وألقيت="" معه="" أشعارا="" من="" أعماله="" وهو="" كان="" حريصاً="" علي="" أن="" أفعل="">

ـ ماذا أخذت منه؟

ـ أخذت اسمه ورسمه  وحلمه. أبي أعطاني أنا  وأختي كل شيء. كفاية أن اسمي «آية عبدالرحمن الأبنودي» كفاية أنه أعطاني أمًا اسمها نهال كمال. لقد تحملت هذه السيدة المسئولية خاصة وهي زوجة لرجل غير عادي تركت العمل من أجل بيتها وزوجها وأولادها. دائماً ما كنت أقول الأبنودي لا يصلح معه إلا زوجة مثل «نهال كمال».. تماما مثلما كانت نهال كمال لا يصلح معها زوجًا، إلا عبدالرحمن الأبنودي.. هذا اختيار الله.. قبل أن يكون اختيارهما هما سألت آية بعدما أخذت مكاني كمحاورة..هل تعرف كيف تزوج عبدالرحمن  الأبنودي نهال كمال؟ قلت أظن كان لقاء في مدرسة بالإسكندرية عندما كانت مازالت طالبة تدرس. قالت آية: كانت  ندوة  ذهبت «نهال» اليها مع صديقة لها لتستمتع بهذا الشاعر الذي يقولون عنه الكثير. بعد الندوة قالت لصديقتها.. أنا سأتزوج هذا الرجل! قلت: نصيب. قالت: وما أجمله نصيب بالنسبة لنا كأولاد.

<>

ـ لو طلبت منك أن ترسلي له برقية الآن.. ماذا تكتبين له. قالت وهي تغالب دموعها محاولة أن تتماسك لكونها فتاة صعيدية بالدرجة الأولي، وبنات الصعايدة  رجالة.. لا تهتز بسهولة مهما كانت الأحزان. قالت سأكتب له: «نفسي أحكيلك زي زمان وتسمعني..نفسي أرفع سماعة التليفون ويجيني صوتك من بعيد يقول: خير.. يا آية قول عايز إيه؟ بجد.. الحياة من غيرك ملهاش طعم. ثم يضغط الكلام علي لسان «آية» فتسكت قليلاً..ثم تقول: العمة يامنة كان عندها حق عندما قالت لك:

حبيبي أنت يا عبدالرحمن

والله حبيبي.. وتتحب

علي قد ما سارقاك الغربة

لكن ليك قلب

<>

الرسالة وصلت.