رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

جريمة.. في قطار الشرق!

بوابة الوفد الإلكترونية

مقدمة ثابتة

اسمه يأخذك إلى دنيا الأساطير والمتعة والسعادة.. وكيف لا وهو يحمل اسم القطار الذي كان مقصداً للسلاطين والأميرات والمشاهير والعشاق..

«قطار الشرق».. اسم لا بد أن تتوقف أمامه.. وطوال طريقي، لركوب القطار الذي يحمل هذا الاسم، وتنطلق رحلاته من محطة كوبري الليمون الملاصقة لمحطة مصر الشهيرة.. هاجمتني تفاصيل كثيرة عن حياة قطار الشرق القديم.. ذلك القطار الأسطوري الشهير، الذي كان كل الكبراء والمشاهير يحلمون بركوبه، بعدما صممه المهندس البلجيكي جورج ناجيلميكرز في نهاية القرن التاسع عشر ليعبر حدود الدول موفراً لركابه أكبر قدر من الخصوصية والرفاهية.

 

رحت أمنِّي نفسي برحلة قطار مريحة ومشوقة، مثلما كان يحدث في قطار الشرق القديم الذي كان عبارة عن حجرات نوم منفصلة تسمح للراكب بالتصرف بمنتهى الحرية.. وكانت عرباته ومقاعده وأسرته ومناضده وكل قطعة فيه مصنوعة من أجود الخامات العالمية بدءاً من أقمشة والجلود وحتى الزجاج الذي كان مصنوعاً من الكريستال.

وتوقعت أن يجري بي قطار الشرق الحالي، بأضعاف سرعات قطار الشرق القديم الذي كان يربط الشرق بالغرب، قاطعاً المساحات الطوال بسرعة 100 كيلو في الساعة، وعابراً قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا، ومتنقلا بين لندن وباريس وبوخارست وأثينا وإسطنبول ومنها إلى دمشق وحلب والقدس والقاهرة والموصل وبغداد.

تذكرت ما قرأته عن حرص صاحبة الصوت الملائكي «أسمهان» على التنقل عبر قطار الشرق القديم.. وتذكرت كيف كان نفس القطار من الروعة لدرجة أنه كان ملتقى للعشاق فعلى متنه كان ليوبولد الثانى ملك بلجيكا يفضل لقاء عشيقته الجميلة «كليو دى ميلود».

وتذكرت أيضاً الكاتبة الشهيرة أجاثا كريستي التي طالما استقلت قطار الشرق القديم لتلتقي بزوجها الذي كان يعمل باحثاً لآثار في العراق، وكتبت «أجاثا» روايتها الشهيرة «جريمة في قطار الشرق» داخل هذا القطار.. وتذكرت أيضاً أن الرئيس عبدالناصر أطلق اسم «خط الشرق» علي الخط الحديدي الذي يربط القاهرة والقليوبية والشرقية والدقهلية تيمنا باسم قطار الشرق القديم، ومتمنياً أن يكون خط القطار الجديد بداية جديدة لوحدة عربية لا يغلبها غلاب.

ووسط سيل الذكريات وصلت إلى محطة كوبري الليمون ذات التاريخ الطويل، والتي كانت بطلة مشاهد سينمائية عديدة في أفلام الأبيض والأسود، ولكنني وجدتها في الواقع أقل بريقاً، وأكثر كآبة، بعدما رسم الزمان على وجهها تجاعيده الحزينة فضربتها الشيخوخة من كل اتجاه.

ورغم الواجهة الواسعة للمحطة كانت مغلقة بسور حديدي، فيما عدا ممراً واحداً ضيقاً يؤدي إلى جهاز كشف المتفجرات.. وصلت للجهاز، ووضعت حقيبتي على «سير» الجهاز، وانتظرت أن يسحبها لتمر خلاله، ولكنها لم تتحرك.. نظرت لأمين الشرطة الجالس أمام الجهاز وقبل أن أسأله، بادرني مبتسماً وقال «عدي على طول»!.. وتدخل في الحوار راكب كان يقف بالقرب من الجهاز، فقال وهو يبتسم أيضاً «الجهاز ده بحالات يوم يشتغل ويوم يتعطل.. بكره هيشتغل إن شاء الله، عدي عدي وربنا يستر علينا».

حملت حقيبتي، وتجاوزت الجهاز متوجهاً إلي أرصفة القطارات، فشد انتباهي طابور طويل يتراص به رجال من كل الأعمار، وبجواره طابور ثان من السيدات، ومن كل الأعمار أيضاً.

وكان الواقفون بالطابورين في انتظار فتح شباك تذاكر المحطة.. والغريب أن كلا الطابورين كان يزداد طولاً كل لحظة، بينما شباك التذاكر مغلق!.. لماذا؟.. قال لي أحد الواقفين في طابور الرجال «موظف شباك التذاكر يرفض البدء في بيع التذاكر للركاب إلا بعد وصول القطار للرصيف»!.. والمفاجأة أن الفارق بين ثمن التذكرة من الشباك وثمنها في القطار هو 50 قرشاً بالنسبة للتذاكر فئة 150 قرشاً، و75 قرشاً للتذكرة فئة 225 قرشاً!

كانت الساعة تقترب من الرابعة والنصف عصراً، وهو الموعد المحدد لانطلاق القطار, ولكنه لم يكن قد وصل للمحطة حتى ذلك الوقت، بينما كان الركاب يتزاحمون على نصف الرصيف، فيما كان النصف الثاني شبه خال، والسبب أن نصف الرصيف فقط له سقف يحميه من الشمس بينما النصف الآخر كان سقفه الشمس!

لم يرق لي الوقوف وسط زحام الركاب الذين كان بعضهم يجلس على مقاعد من الحجر، وآخرون يجلسون على بلاط الرصيف نفسه، وفريق ثالث يجلسون على «حلل» فارغة وقطع من بقايا «كراتين» ممزقة!

ولهذا عدت مرة ثانية إلى بهو المحطة، الذي يوجد فيه مسجد صغير، وبجواره دورة مياه يستعملها الرجال والنساء على السواء، وإذا اقتربت منها لبضعة أمتار تستقبلك روائح خانقة وكأنك سقطت في مصرف بحر البقر!

وفي بهو المحطة توجد حجرة ناظر المحطة، التي يتوسطها مكتب خشبي كبير وأمامه كراسي عتيقة، وإلى جانب مكتب الناظر مجموعة دواليب تخرج من جوانبها أطراف أوراق مكدسة وموضوعة دون تنظيم.. وتجاور غرفة الناظر غرفة ثانية لمساعديه ولعمال الإشارة ولكمسارية القطارات.

وعلى الجانب الآخر من بهو المحطة وفي مواجهة مكتب ناظر المحطة , توجد 3 أكشاك تبيع البسكويت والسجائر والعصائر والمياه.

 

«أهو جه أهو جه»

كانت عيون الجميع تنظر بعيداً في اتجاه قدوم القطار، ولكن بصرهم ينقلب إليهم خاسئاً وهو حسير، فليس للقطار أثر رغم أن موعد انطلاقه من المحطة كان قد مر عليه حوالي 10 دقائق.

وأخيراً جاء القطار.. وبمجرد ظهوره من بعيد ساد الهرج أرجاء المكان ووقف جميع الجالسين، استعداداً للتوجه إلى القطار، بينما بلغت السعادة مبلغها عند بعض صغار الشباب، فصفقوا وغنوا بأصوات جماعية مخلوطة بضحكات عالية ومرددين «أهو جه أهو جه»!

ولم يخرجني من أصوات الأغاني إلا أصوات صرخات مدوية انطلقت من أمام شباك التذاكر، والسبب أن الموظف المسئول عن التذاكر أغلق الشباك ورفض بيع تذاكر بدعوي أن موعد القطار «عدي» ولا يمكنه أن يبيع تذاكر بعد هذا الموعد!

ورغم تزايد الصراخ لم يستجيب الموظف وأغلق شباكه ثم أغلق المكتب ذاته وانصرف بهدوء غريب وهو يتمايل في مشيته متجهاً إلى المكتب المجاور لمكتب ناظر المحطة!

وانطلقت صافرة القطار معلنة قرب انطلاقه، فجرى الجميع للحاق به، وبمجرد أن وضعت قدمي داخله، هالني كم التراب الذي يغطي أرضيته، ومقاعده كلها، وزاد الأمر سوءاً أن مقاعد القطار نوعان لا ثالث لهما، فهي إما من «الفبر» أو من الحديد الذي تمزقت «بطانته» من كثرة الجلوس عليه، فلم يبق غير الحديد الصدئ.. حتى مقاعد الفيبر كان أغلبها مشروخاً أو ملطخاً ببقع سوداء غريبة!

وكان طبيعياً أمام هذا الحال أن يشرع الجميع في تنظيف الكراسي فور دخولهم القطار قبل الجلوس، والبعض كان يحتفظ بقطع الكراتين التي كان يجلس فوقها على الرصيف ليضعها على الكرسي الذي سيجلس عليه داخل القطار.

ولم تتوقف المأساة عند هذا الحد، ففجأة دخل شاب نحيل هزيل الجسد عربة القطار التي كنت فيها.. كان يحمل «مكنسة» وبسرعة شرع بهمة كبيرة في كنس عربة القطار، فأثار عاصفة من التراب أغرقت الركاب الذين استنشقوا ما تيسر من غبار دون غضب أو امتعاض، وكان الجالسون بجوار الشبابيك المكسرة أكثر سعادة حيث ألقوا برؤوسهم خارج القطار، بينما حاول الجالسون بجوار شبابيك لا تزال تحتفظ بزجاجها، أن يفتحوا تلك الشبابيك ففشل أغلبهم لأن الشبابيك غير قابلة للفتح، فاستسلموا للتراب مرغمين!

وتواصلت المأساة على يد رجل ستيني كان يحمل علي ظهره أسطوانة، متصلة برشاش مياه.. الرجل جاء في أعقاب الشاب الذي كان يكنس العربة، وكان دور هذا الرجل هو رش الممر بسائل «الديتول» الذي كان يملأ الأسطوانة التي يحملها على ظهره.. وتداخلت روائح «الديتول» مع الغبار فتكون خليط من الروائح الخانقة، وبدأ بعض كبار السن والسيدات في السعال، وأحسست بأن البعض يمكن أن يصاب بما هو أكثر من السعال، ولكن الله سلم وجاء الفرج.

لم يكن هذا الفرج سوي تحرك القطار.. انطلق القطار بعد أكثر من 15 دقيقة من موعده، والغريب أن بعض الركاب كانوا لا يزالون يتوافدون على المحطة.. وكانوا يعدون خلف القطار للحاق به، ووصول هؤلاء متأخرين عن موعد القطار يعني أنهم «متعودين دايماً» على أن القطار يتأخر عن موعده!.. ويبدو أن السائق قد رق قلبه لمن يعدون على الرصيف فأبطأ من سرعته، حتى بعدما ابتعد عن رصيف المحطة بعدة أمتار، ثم انطلق في طريقه بسرعة أكبر.

وكان واضحاً أن أغلب الركاب قد فاز بمقعد في القطار بينما قلة قليلة واقفة في الممر الفاصل بين مقاعد العربات، ولم يكن يزاحمهم سوى أقفاص و«حلل» و«طشوت» وأجولة ألقاها بعض الركاب في الممر، والحقيقة أن الممر هو الوحيد لاستقبال كل هذه الأشياء لاستحالة وضعها على الأرفف، لأنها مرتفعة بدرجة يصعب أن تصل إليها الأيادي، وهو ما يجعل من الصعب جداً وضع أشياء فوقها.

كان القطار يتمايل بشكل غريب وهو يجري بسرعة كبيرة، فيثير غباراً اقتحم جميع العربات، وأغرق الجميع بالتراب، فشرع الجميع في نفضه عن وجوههم وملابسهم، وكان الأمر طبيعياً أو كأنه طقس من طقوس ركوب قطار الشرق!

وظل غبار الأتربة يكسو ركاب القطار لعدة دقائق، وأخيرا انتهي الغبار، بعدما هدأ سائق القطار من سرعته، وهو على مشارف محطة «الزاوية الحمراء» وهي أول محطة للقطار بعد محطة كوبري الليمون، وعندها تطوع الراكب الجالس في المقعد المجاور لي ونصحني بأن «أشيل أيدي من على الشباك».. سألته: ليه؟ فقال مبتسماً: «فيه عيال بتقف على المحطة وتضرب علي الركاب من الشبابيك»!..شكرته على النصيحة وبدأت أستعد لتفادي «ضرب العيال».

ودخل القطار المحطة وانشغلت بحماية نفسي من «عيال المحطة» الذين حذرني منهم جاري في القطار.

ووسط انشغالي وقعت عيني علي مشهد غريب.. فوجئت بقهوة بلدي تحتل رصيف القطار.. الرصيف كله تحول إلى قهوة ومقاعد وشاشات تليفزيون، و«نادل» ينزل المشاريب للزبائن!

والحكاية كما رواها لي ركاب القطار أن المحطة كانت تلاً من القمامة، وأن صاحب المقهي أزال القمامة ونظف الرصيف وحوله إلى مقهي!

لم يتوقف القطار سوى دقيقة واحدة وربما أقل ثم غادر محطة الزاوية الحمراء فتنفست الصعداء بعد النجاة من هجوم الأطفال، ولكن لم تمر سوى ثوان قليلة حتى سمعت أصوات تكسير زجاج وارتطام شديد متواصل، وفي لمح البصر كان ركاب عربة القطار التي كنت فيها قد انحنوا في أماكنهم وبعضهم نزل في الممر أمام الكرسي الذي يجلس أخفوا رؤوسهم، ولأول وهلة تصورت أن القطار يتعرض لإطلاق رصاص، ولكن الحقيقة لم تكن كذلك.

والحكاية أن أطفال الزاوية الحمراء لم يجدوا شيئاً يسليهم إلا قذف ركاب القطارات بحجارة البازلت، وهكذا لا يمر قطار إلا وقذفه الأطفال الذي يسعدهم جداً نظرات الخوف التي تملأ قلوب الركاب خشية الإصابة من الحجارة، فيغرقون في بحر من الضحك، بينما الركاب ما بين خائف أو مصاب بالزجاج المتطاير أو بقطع الحجارة نفسها.

ويؤكد الركاب أن البعض فقد عينه بسبب حجارة الأطفال، وأن إحدى السيدات أجهضت بسبب إصابتها بالحجارة في بطنها.. والكارثة أن قذف الركاب بالحجارة يتكرر مرتين.. مرة في الزاوية الحمراء ومرة ثانية في شبرا الخيمة!

 

زحام.. بالأمر

تجاوزنا مناطق القذف بالحجارة، ودخلنا محطة شبرا الخيمة، فتحول القطار إلى مشهد من مشاهد يوم القيامة.. حيث الازدحام الشديد، والأجسام المتلاصقة والضلوع التي تدخل في الضلوع بسبب الركاب.

«القطار قصير» هكذا برر الركاب الزحام، مؤكدين أن أغلب قطارات الشرق لا تزيد علي 5 عربات رغم أنها تنقل ركاب محافظات القليوبية والشرقية والدقهلية، المفاجأة أن لوائح السكة الحديد حددت 6 عربات كحد أدني للقطارات، ولكنها تخالف لوائحها في قطار الشرق فتجعله من 5 عربات فقط!

وزاد من عذاب الزحام تعدد الباعة الجائلين الذين يجوبون عربات القطار بحثاً عن الرزق، يتحرّكون برشاقة فائقة بين أجساد متلاصقة، عارضين بضاعتهم، فهذا يبيع «ترمس» وآخر يبيع «شاي ونسكافيه»، وثالث يبيع «سميط» ورابع يبيع مناديل، وخامس «عسلية» وسادس يبيع «جلد الحنفيات وأنابيب البوتاجاز» وسابع يبيع «المحافظ والمقصات»، بالإضافة إلى الاحتياجات المنزلية الأخرى.

 

درجة رابعة!

 

ويبدو أن الزحام وشدة الحر صارا أكبر من صبر الركاب.. حيث بدأ البعض يطلق لعناته على مسئولي السكة الحديد ووزير النقل والحكومة كلها.

وتعالت عبارة من نوع «خط الشرق ده هيفضل طول عمره مظلوم كده».. فيرد راكب آخر «لسه الهيئة بتعتبرنا خط بضائع يعني مش مهم الركاب اللي زينا»..وهذه العبارة الأخيرة فسرها لي عادل محمد -محاسب- الذي يصف نفسه بأنه أحد الركاب الدائمين لقطار الشرق قائلاً: «خط الشرق يمثل تجسيداً يومياً لإهانات هيئة السكة الحديد لأهالي القليوبية والشرقية والدقهلية الذين يركبون هذا القطار المغضوب عليه الذي يمر بـ48 محطة بدءاً من كوبري الليمون حتى المنصورة، بطول 147

كيلومتراً.

وتابع: «هيئة السكة الحديد تتعامل معنا باعتبارنا مواطنين درجة رابعة.. فلو أن هناك قطار بضائع سيمر علي نفس الخط، فإن قطار الركاب يتم ركنه لفترات تصل إلى ساعة أحياناً حتى يمر قطار البضائع دون أن يتوقف في أي محطة».

وتدخل في الحوار وجدي عواد -موظف- فقال: «المفروض أن خط الشرق مزود بإشارات كهربية من القاهرة حتى شبين القناطر، وهذه الإشارات تدار مركزياً من خلال غرفة العمليات المركزية لهيئة السكة الحديد والموجودة في رمسيس، ورغم ذلك لا يزال عمال البلوكات يتحكمون في القطارات، ويرتكبون في حق ركاب خط الشرق جرائم بلا حصر، فبعض القطارات يتم حجزها في محطات لمدة نصف ساعة بدون سبب، وإذا سألت في المحطة «القطار واقف ليه؟» يجيبوا: «القطار المقابل جاي».. ننتظر القطار اللي جاي لمدة نصف ساعة وربما أكثر, والغريب أن الفارق بين كل محطة والتي تليها لا يزيد علي 10 دقائق ويعني ممكن القطار الذي تم توقيفه كل هذه المدة كان يمكنه بسهولة جداً أن يواصل رحلته ليقابل «القطار الجاي» في المحطة التالية أو حتى التي تليها».

وواصل: «ما يدل أيضاً على أن هيئة السكة الحديد تعتبرنا مواطنين درجة رابعة هو أن إشارات وسيمافورات خط الشرق تتعرّض للأعطال في بعض الأحيان، فلا يتم إصلاحها إلا بعد أسابيع طويلة، وهذا ما حدث مثلا في إشارة محطة قليوب التي تتعطل أكثر مما تعمل».

وتشير نجاح فؤاد -موظفة- إلى أن كل شيء في خط الشرق يعبر عن إذلال الهيئة للركاب.. وتقول: «أركب قطار الشرق يوميا من محطة بلبيس بالشرقية حتى القاهرة، وهذه المسافة يقطعها القطار في زمن يتراوح بين ساعتين ونصف و3 ساعات كاملة وهو ما يعني أن متوسط سرعته 25 كيلومتراً في الساعة أي أقل من سرعة النعامة التي تصل إلى 50 كيلو في الساعة.. فهل هذا يليق بقطار سكة حديد في القرن الواحد والعشرين».

وتابعت: «لو سألت ركاب القطار كلهم عاوزين إيه ستجد إجابة واحدة.. لن يطلبوا شبابيك بدلا من المكسورة، ولن يطلبوا كراسي أنظف من الحالية ولا حتى دورات مياه، ولكنهم سيطلبون أن ينتظم القطار في مواعيده وهذا لا يحتاج سوي إدارة آدمية لقطار الشرق يعني لن يكلف الهيئة مليماً واحداً.. فهل هذا صعب على هيئة السكة الحديد؟!».

ويبدو أن كلمات «نجاح» أثارت غضب البعض، وهو ما عبر عنه مصطفي عبدالسلام -طالب جامعي- قائلاً: «إحنا مش عاوزين القطار ينظبط» في مواعيده وسرعاته فقط، من المهم كمان أن يكون في القطار دورات مياه، خاصة أن رحلته تزيد علي 4 ساعات، فهل يعقل أن يكون القطار بلا دورة مياه واحدة؟!».

وأضاف: «القطار كمان في حاجة إلى تواجد شرطي، فـ«الخناقات» لا تنقطع في القطار وبعض الشباب الصغار يكونون ما يشبه العصابات التي تعتدي على الناس بدون سبب وتعاكس السيدات وطالبات الجامعة، والكارثة أن بعضهم يشربون «البانجو» والمخدرات في القطار ولهذا لا تتوقف المعارك في القطار».

ومدللاً على أن ركوب خط الشرق هو العذاب بعينه، قال إسماعيل مختار، موظف «قطارات الشرق في الصباح تكون كتلة من العذاب حيث تزاحم الركاب «طشوت» الجبنة وأقفاص البط والفراخ والحمام وأجولة الخضراوات والفاكهة، ولهذا يكون الزحام حانقاً».

وأضاف: «الزحام يهد حيلنا في الصباح وأنا عن نفسي بأروح الشغل وأنا خلصان وزي كتير جداً من ركاب قطار الشرق علشان كده مبيركبوش إلا المضطر والفقير الذي لا يستطيع أن يدفع يومياً.

مال سايب

 

شغلتني حوارات الركاب عن متابعة مسيرة القطار، ورغم ذلك استرعاني عبور أشخاص من فوق قضبان السكك الحديدية من أماكن ليس بها مزلقانات أساساً!

مضت حوالي 45 دقيقة على انطلاق القطار من محطته الأولى في كوبري الليمون وعندها وصلنا إلى محطة قليوب، والمدهش أن المحطة كانت منخفضة عن القطار لمسافة تكاد تصل إلى 30 سنتيمتراً كاملاً، والسبب أن الهيئة قررت منذ عدة أسابيع إحالتها لإحدي الشركات التي أزالت أرصفتها تماماً حتى تعيد تشيدها من جديد.. والأكثر دهشة أن عدداً كبيراً من ركاب القطار أكدوا أن المحطة كانت بحالة جيدة، ولم تكن في حاجة إلى تجديد.. وبدا الأمر وكأن هناك شيئاً غريباً في الحكاية.. وهو ما عبر عنه أحد الركاب واسمه حسين علي -موظف- قائلاً «الحكاية فيها بيزنس، خاصة أن هيئة السكة الحديد قررت فجأة تجديد مئات المحطات رغم أنها تشتكي من كثرة الديون وضعف الإيرادات».

وتدخل راكب آخر في الحوار فقال: «والله أنا سمعت من ناس شغالة في السكة الحديد نفسها أن اللي بيجدد محطات السكة الحديد هي شركة تابعة لنجل وزير النقل سعد الجيوشي!».

وبعد أن قال الراكب جملته هذه انفجر البعض في شتم وزارة النقل.. بينما راح البعض يدافع ويقول: «دا كله كلام شائعات واللي عنده دليل على حاجة يقدم بها بلاغاً للنيابة».. وبعدها ساد صمت إلا من صوت سريان القطار على القضبان، المصحوب بأصوات صافرة القطار التي يطلقها السائق كل فترة وأخرى».

 

عندما حضر الكمساري

وصلنا لمحطة «كفر رمادة» وبدأ بعض الركاب ينزلون من القطار، وحتى ذلك الحين لم يكن الكمساري قد حصل منهم التذاكر، وأخيراً ظهر الكمساري، وكان الإرهاق بادياً عليه بسبب الزحام، والواقع أن أزمته مع بعض الركاب كانت أكثر ألماً، فبعض الشباب رفض سداد قيمة التذكرة.. كانوا مجموعة من الشباب الصغير عددهم يصل إلى ثمانية.. جميعهم كانوا واقفين أمام أحد أبواب.. بأدب جم قال لهم الكمساري: تذاكر يا شباب.. لم يرد أحد، فكرر عبارته، فقال أحدهم نازلين المحطة الجاية.. فقال: بالسلامة إن شاء الله بس تدفعوا تذاكر برضوا.. فقال شاب آخر: إحنا مبندفعش.. وارتفع أصوات الجميع قائلين: إيه يا عم أنت جديد على الخط.. بنقولك إحنا مبندفعش».

والمذهل أن الكمساري تركهم وتوجه لركاب آخرين لتحصيل قيمة التذاكر منهم، فيما همهم بعض الركاب «هيبهدلوه لو شد معاهم»!

 

إيرادات مخجلة!

واصل القطار رحلته ونزل الشباب «اللي ما بيدفعوش في محطة «نوي» وعاود القطار رحلته متنقلاً بين القرى المختلفة، وفي كل قرية ينزل عدد من الركاب حتى وصلنا إلى محطة شبين القناطر، فنزل أغلب الركاب، ولم يعد أحد واقفاً في القطار، حتى الكمساري نفسه، وجد كرسياً فجلس عليه ليستريح من عناء ساعات طوال قضاها مخترقاً بحار من أجساد البشر.

اقتربت منه وسألته عن الإيرادات فبدأ متحفظاً، وحاول الهروب من الإجابة، ولكنه في النهاية قال إيراد خط الشرق لا يزيد علي 400 جنيه في الرحلة.. عدت أسأله: وما تكلفة هذه الرحلة بمعني.. تكليف التشغيل أي الوقود، والإهلاكات.. ورواتب السائق ومساعدوه والكمساري.. فقال: لا تقل عن 2000 جنيه.

ثم قال: الكلام ده مش للنشر.

لم أعلق وسألته: ولكن القطار كان مزدحماً بالركاب.. فكيف لم تحصل منهم سوي 400 جنيه؟.. فقال مبتسماً: في قطار الشرق العبرة ليست بالعدد.. فأغلب الركاب من موظفي السكة الحديد وهؤلاء لا يدفعون ثمناً للتذاكر، والباقي إما طلاب جامعة معهم اشتراكات مخفضة، وبالتالي لا يقطعون تذاكر في القطارات، أو موظفي حكومة معهم اشتراكات سنوية (قيمتها 300 جنيه سنوياً) وأيضاً لا يقطعون تذاكر في القطارات، وهناك أيضاً من يتهربون من الدفع، أو يقطعون تذاكر من شبابيك المحطات وبالتالي لا يبقي إلا قلة قليلة تقطع تذاكر داخل القطار».

وتابع: «ثم أن أغلب الركاب من القليوبية وسعر التذكرة لهم تبلغ 150 قرشاً، وأعلى تذكرة في القطار لا تصل إلى 4 جنيهات».

سألته: ولماذا لا تقطع تذاكر مقابل «الطشوت» والأجولة التي لا تخلو منها عربة قطار؟

لم يجبني الكمسري عن سؤالي حيث سارعت إحدي السيدات صارخة: حرام عليك هي جت علينا يعني.. دا إحنا بنتبهدل علشان بنجري على يتامي.

ابتسم الكمساري من كلامها أما أنا فنزلت في أقرب محطة وعدت للقاهرة..

عدت وأنا على يقين بأن قطار الشرق يشهد جريمة لا تتوقف.. ولكنها جريمة عكس جريمة رواية «أجاثا كريستي» التي تحمل اسم «جريمة.. في قطار الشرق».. فالرواية تقول إن جميع ركاب خط الشرق القديم هم الذين قتلوا أحد الركاب.. أما خط الشرق الحالي فالركاب جميعاً هم الضحايا وليس القتلة.. فهم الذين يقتلون كل يوم بسبب الزحام والإهمال والبلطجة والمعاملة غير الآدمية التي يعيشونها في القطار.