بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
د. وجدي زين الدين

نظام خائف‮ ‬يحكم شعباً‮ ‬من الخائفين‮!‬

حقيقة مفزعة‮: ‬94‮ ‬٪‮ ‬من الشعب المصري،‮ ‬يقبلون الفساد ويمارسونه،‮ ‬و84٪‮ ‬منهم لا‮ ‬يحبون بعضهم البعض ولا‮ ‬يثقون في‮ ‬بعضهم البعض أو أجهزة الدولة،‮ ‬ويهتمون بالتدين الشكلي،‮ ‬ويفتقدون القدوة ويحكمهم نظام خائف بينما هم شعب من الخائفين‮!. ‬

‮ ‬لا‮ ‬يختلف اثنان على أن مصر دخلت المشرحة منذ سنوات،‮ ‬وتنتظر بين الحياة والموت تدخل جراج‮ "‬شاطر‮"‬،‮ ‬أو عناية إلهية تنجيها من مصير محتوم‮. ‬هذا الظن الذي‮ ‬أصبح‮ ‬يقينا‮ ‬يدفعني‮ ‬إلى قراءة كل ما‮ ‬يكتب أو‮ ‬يقال حول سبل خروج البلد من‮ ‬غرفة الانعاش التي‮ ‬دخلها،‮ ‬فلم أجد قولا‮ ‬ينشط للبلد قلبا،‮ ‬ولم‮ ‬ينظف الانسداد العالق بالشرايين،‮ ‬بل أغلبها اكتفى بدفع بعض الأنفاس البسيطة ليظل الوضع الساكن على ما هو عليه،‮ ‬حتى‮ ‬يسكن النبض تماما أو‮ ‬يصدر بيان آخر‮!‬

خَلفت فترة ما بعد الانتخابات جدلا واسعا،‮ ‬انصب في‮ ‬أغلبه حول مستقبل نظام الحكم،‮ ‬والدعوة إلى تطبيق الديمقراطية بمعايير‮ ‬يعرفها العالم،‮ ‬وليس بتلك الأعراف التي‮ ‬طبقها الحزب الحاكم،‮ ‬فلم تفرق بين التزوير والتصويت،‮ ‬والبلطجية ورجال القانون،‮ ‬ولعبة السياسة وألاعيب شيحه التي‮ ‬يفتخر بإتقانها الفتى المعجزة أمين التنظيم‮. ‬جاءت الكلمات مشحونة بالعواطف الملتهبة،‮ ‬لهول ما فعل بمصر والمصريين،‮ ‬من جرائم وقعت باسم القانون تحت سمع وبصر أناس‮ ‬يفترض بهم أنهم رجاله أوحماته من المغتصبين‮. ‬وبالغ‮ ‬البعض إلى حد التشاؤم من المستقبل،‮ ‬وفزع آخرون محذرين من ثورة شعبية تحت الرماد ما تلبث أن تقوم،‮ ‬فتحرق الأخضر واليابس‮. ‬وقبل أن‮ ‬ينفض السامر،‮ ‬هدأت العاصفة،‮ ‬ومضى كل إلى‮ ‬غايته،‮ ‬ففاز اللص بغنيمته،‮ ‬ولم‮ ‬ينل الخاسر إلا اللطم وشق الجيوب،‮ ‬بينما الناس سكارى ولا‮ ‬يعلمون أن‮ ‬غدا‮ ‬ينتظرهم عذاب شديد‮. ‬

انتهت المعركة السياسية،‮ ‬فإذ بالجنود قد فارقوا جيادهم،‮ ‬وتركوا الساحة فارغة لخصمهم،‮ ‬فمنهم من شارك في‮ ‬جني‮ ‬الغنائم،‮ ‬وكثير منهم اكتفى بحمل الرمم ثقة منه في‮ ‬أن الفوز بالسيئ سيمكنه من مواجهة ما هو أسوأ‮. ‬في‮ ‬خضم الأحداث ظلت مصر داخل المشرحة،‮ ‬ولم تمتد‮ ‬يد تخرجها من حالة الموات التي‮ ‬أصابتها،‮ ‬فالكل تسابق على تشخيص المرض،‮ ‬وكأننا لا نعرفه منذ عقود،‮ ‬حتى اطلعت على المقابلة التي‮ ‬أجراها الدكتور أحمد عكاشة رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي‮. ‬وضع المفكر الكبير في‮ ‬مقابلته مع الزميل عادل القاضي‮ ‬رئيس تحرير‮" ‬بوابة الوفد الالكترونية‮ ‬يده على بيت الداء،‮ ‬وهي‮ ‬أن مصر ستظل في‮ ‬المشرحة لأنها محكومة من‮ "‬نظام خائف‮ ‬يحكم شعبا من الخائفين‮".‬

هكذا شخص العالم الجليل المشكلة،‮ ‬ولخص فحواها بأن مصر التي‮ ‬عاشت عقوداً‮ ‬تحكم بقوانين طوارئ أوجدت طبقة من العبيد تربت على الخنوع والسلبية،وعدم الاهتمام إلا بالأمور الأسرية البسيطة،‮ ‬وسمحت لنفسها أن تستعبد،‮ ‬بينما تتحول السلطة في‮ ‬أمخاج عشاقها إلى أفيون‮ ‬يدفع متعاطيه إلى طلب المزيد من مشاعر الولاء وأن‮ ‬يفعل أي‮ ‬شئ للبقاء في‮ ‬السلطة،‮ ‬ولو بلغ‮ ‬به الحال قتل أمه وأبيه وصاحبته وبنيه‮!. ‬كلام الرجل إن لم‮ ‬يأت بجديد،‮ ‬لكنه تواكب مع دراسات أجراها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء والتي‮ ‬نشرت الأسبوع الماضي،‮ ‬تبين أن‮ ‬94٪‮ ‬من الشعب المصري،‮ ‬يقبلون صورة من صور الفساد ويمارسونه،‮ ‬وأن‮ ‬84٪‮ ‬منهم لا‮ ‬يحبون بعضهم البعض ولا‮ ‬يثقون في‮ ‬بعضهم البعض أو أجهزة الدولة،‮ ‬وأن المصريين‮ ‬يهتمون بالتدين الشكلي،‮ ‬ويفتقدون القدوة‮. ‬

لم‮ ‬يكن تشخيص العالم أحمد عكاشة صادما،‮ ‬فأفعال المصريين تدل على حالهم،‮ ‬فما نراه في‮ ‬مكاتبنا من ممارسات‮ ‬غير أخلاقية،‮ ‬وغياب مفهوم العدالة والقانون وانتهاكنا لقدسية الحياة الخاصة،‮ ‬وخيانة الأمانات والعيش والملح،‮ ‬أصبحت من السمات الشائعة بين تجمعات العمل بين المصريين في‮ ‬داخل البلاد وأشد في‮ ‬الخارج‮. ‬مع ذلك هالني‮ ‬أن‮ ‬يكون الهجوم الشديد من الدكتور عكاشة على النظام والحكومة بهذه القسوة،‮ ‬بينما كان مفعما بالأمل في‮ ‬باقي‮ ‬المواطنين سواء من المهمشين أو السياسيين والمشاركين في‮ ‬العمل العام‮. ‬فالدكتور عكاشة‮ ‬يبدو متفائلا في‮ ‬أن تتمكن نسبة الـ‮ ‬6٪‮ ‬من المصريين الذين لم‮ ‬يشاركوا في‮ ‬الفساد من قيادة‮ ‬94٪‮ ‬من الشعب لديهم استعداد شره لممارسة الفساد والنفاق ومشاركة السلطة في‮ ‬سواءتها إما بالدعم أو الصمت على أفعالها التي‮ ‬تحولهم إلى عبيد‮. ‬قد‮ ‬يكون الدكتور عكاشة بصفته طبيبا نفسيا في‮ ‬المقام الأول لديه بيانات لا نعلمها عن قدرة هذه النسبة الضئيلة من الشعب على تغيير عادات‮ ‬ملايين كاسحة من البشر،‮ ‬أو‮ ‬يدفعه

التفاؤل مع مرضاه في‮ ‬أن‮ ‬يبث فيهم الأمل من أجل دفعهم إلى تغيير سلوكهم المشين بهدف اجتثاث المرض في‮ ‬مراحل لاحقه،‮ ‬ولكن من المؤكد أن الشعب الذي‮ ‬يقصده أصبح بالفعل شعباً‮ ‬خائفاً‮ ‬لم‮ ‬يعد قادرا إلا على صناعة أنظمة أكثر خوفا واستبدادية‮! ‬

فلم‮ ‬يعد النظام ولا الحكومة وحدهما‮ ‬يتحملان أوزار المصريين‮. ‬فهناك من‮ ‬يشارك النظام في‮ ‬تزوير الانتخابات لمجرد أن‮ ‬يظل موجودا في‮ ‬زمرة المشهورين،‮ ‬وهناك من‮ ‬ينغمس حتى أعناقه في‮ ‬نعيم النظام ولا‮ ‬يستطيع الخروج عليه،‮ ‬خوفا من زوال الجاه والثروة،‮ ‬وهناك من‮ ‬يبارك الديكتاتورية إذا كانت ستمنع عنه ضررا،‮ ‬ويجني‮ ‬من ورائها الملايين،‮ ‬وهناك من‮ ‬يناور في‮ ‬العلن ويعقد الصفقات من تحت الطاولة،‮ ‬فإذا حصل على ما لا‮ ‬يريد‮ ‬يركض ويرفس‮ ‬،‮ ‬حتى‮ ‬ينال مبتغاه أو‮ ‬يرضى بالقليل‮. ‬وقد كانت الانتخابات الأخيرة خير شاهد على شخصيات رضيت بالتزوير طالما كان في‮ ‬صالحها،‮ ‬وباركت الصفقات السياسية التي‮ ‬نقلتها من الشارع إلى ساحة البرلمان،‮ ‬وسكتت عن الحق طالما استفادت من الباطل‮. ‬

لم‮ ‬يعد النظام خائفا من الشعب،‮ ‬لأن الفراعنة الحاكمين له جعلوه مقتنعا بضرورة أن‮ ‬يكون كل فرد في‮ ‬نفسه فرعوناً‮ ‬صغيراً‮. ‬لذا لا تتعجب إن تحكم فيك فراش في‮ ‬مكتبك أو سائس في‮ ‬جراجك أو بلطجي‮ ‬في‮ ‬الشارع أو موظف في‮ ‬مكتب حكومي‮ ‬أو فقيه صاحب فتوى أو أستاذ في‮ ‬جامعة،‮ ‬فكل منهم‮ ‬يمارس السلطة على طريقته وينال حظه من المال والجاه وفقا للعرف الذي‮ ‬يرضى به‮. ‬فقد تمكن النظام الخائف أن‮ ‬يضم لزمرته كثيراً‮ ‬من الخائفين حتى‮ ‬يتمتع أمام الناس بالقوة ولو كانت زائفة‮. ‬وهذه القوة تأتي‮ ‬أحيانا من أحزاب وتجمعات سياسية أو علمية أو عمالية،‮ ‬تمكنه من إخافة الآخرين بشتى الطرق‮. ‬لذا أراني‮ ‬قد خالفت العالم الجليل في‮ ‬تصور الخروج مما أصبحنا فيه‮. ‬فالفساد الذي‮ ‬استشرى أصبح له رعاة ومؤسسات أقوى من النظام الخائف والشعب المستكين،‮ ‬والعدل المفقود لن‮ ‬يعود وفقا لهوى أقلية تهمش عمدا في‮ ‬كافة الأصعدة،‮ ‬والديمقراطية الغائبة لن نعرفها طالما أن الحوار بين الداعين لها‮ ‬يفتقدون أبسط مبادئها‮. ‬

إن الحل الذي‮ ‬ينتظره المفكرون العقلاء من أمثال الدكتور عكاشة وغيرهم،‮ ‬لن‮ ‬يأتي‮ ‬مطلقا‮. ‬فالسكتة الدماغية التي‮ ‬أدخلت مصر المشرحة،‮ ‬لن تُزال إلا عبر جراحين مهرة قادرين على حمل المشارط وجذر الأعضاء التي‮ ‬تيبست وتعفنت وتقف حائلا دون عودة العنفوان للعقل والقلب‮. ‬وأظن أن المشرحة الآن مليئة بالمرضى ولا‮ ‬يوجد بها الأطباء القادرون على حسم مثل هذه النوعية من الجراحات الخطيرة،‮ ‬وما علينا إلا الصبر كما فعل موسى مع قومه‮ ‬حتى‮ ‬يأتي‮ ‬الله بجيل كاره للفساد ويرفض الذل والاستعباد أو‮ ‬يواصل النظام اللعب مع حلقات الفساد‮ ‬التي‮ ‬يستقوى بها،‮ ‬حتى‮ ‬ينفرط عقده من الداخل،‮ ‬فنلقى مصير روما عندما احرقها نيرون،‮ ‬فدبت رياح التغيير من قلب النار‮. ‬

[email protected]