بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
د. وجدي زين الدين

التعليم الذى نريد‮‬2

قِبلَةُ‮ ‬التعليم

إذا كان تقدم الأمة رهنا بما‮ ‬يكون عليه أبناؤها من‮ "‬تكوين‮"....‬

وإذا كانت الأمم المختلفة،‮ ‬وعبر طول الزمان،‮ ‬وتعدد المكان،‮ ‬قد أوكلت للتعليم مهمة تكوين شخصية المواطن وتنشئتها‮...‬

وإذا كان التعليم بناء على هذا قد أصبح هو المدخل المهم للولوج إلى آفاق النهوض الحضارى،‮ ‬والتقدم على كافة الصُّعُد‮...‬

يصبح التعليم بحاجة إلى أن تمده الأمة‮ "‬بخريطة النهوض الحضارى‮" ‬الذى تتغياه،‮ ‬وتنشد تحقيقه،‮ ‬وكأن التعليم هنا بمثابة‮ "‬الصانع‮"‬،‮ ‬الذى‮ ‬يطالب‮ "‬الزبون‮" ‬بأن‮ ‬يوضح له‮ "‬ماذا‮ ‬يريد ؟‮"‬،‮ ‬حتى‮ ‬يمكن له أن‮ ‬يفكر ويضع ويصمم السبل الكفيلة بتحقيق هذا المطلب‮..!‬

وخريطة النهوض الحضارى،‮ ‬هى صياغة أخرى لما هو متداول بين كثيرين حول ما‮ ‬يُسمى‮ "‬بالمشروع الحضارى‮".‬

إن من الخطأ الجسيم،‮ ‬أن‮ ‬يتصور البعض أن كل ما هو مطلوب من التعليم هو أن‮ ‬يصمم المسئولون عنه،‮ ‬إدارة،‮ ‬وفكرا،‮ ‬وبحثا‮: ‬مناهج تعليم على درجة عالية من التقدمية والعلمية،‮ ‬ويضع طرقا لتعليمها تُسَهّل وصول ما نريد إلى الأجيال الجديدة،‮ ‬وأن‮ ‬يصمم كتبا مدرسية تتسم بالجودة العلمية والبساطة والجاذبية،‮ ‬وأن‮ ‬يوفر معلما على خلق،‮ ‬ويحيط بمادته العلمية إحاطة جيدة،‮ ‬ويعرف جيدا كيف‮ ‬يتعامل مع تلاميذه تعاملا‮ ‬يجعلهم أكثر تقبلا للتعلم،‮ ‬وللتخلق بما هو محمود ومرغوب من طيب السلوك وفاعلية الهمة،‮ ‬وأن‮ ‬يتم كل هذا وذاك فى مبنى تعليمى‮ ‬يتسم بالفعالية التعليمية بكل متطلباتها التى‮ ‬يحددها المهندسون المتخصصون،‮ ‬بالتعاون مع خبراء التربية‮..‬

إن كل هذا مطلوب بالفعل،‮ ‬بل‮ ‬يشكل آمالا‮ ‬يستشعر ضرورتها كل من جعل التعليم قضية مجتمع،‮ ‬لكنه مستحيل التحقق إلا بناء على ما أشرنا إليه من‮ "‬خريطة نهوض حضارى‮" ‬يتفق عليها ساسة الأمة ومفكروها وعلماؤها‮.‬

وإذا كان هذا أمراً‮ ‬يتطلب وقتاً،‮ ‬بينما حركة الأمة لا تتحمل انتطاراً،‮ ‬ولا تطيق توقفاً،‮ ‬فإن الأمر،‮ ‬ربما‮ ‬يبدأ بداية ملحة بتحديد ما نسميه‮ "‬القِبلة‮" ‬أو‮ "‬الوِجهة‮ " ‬التى‮ ‬يتجه إليها العمل الوطنى بكل مجالاته،‮ ‬وكل آفاقه‮.‬

ومنذ بدأت الأمم التى عرفت بحملها لواء حضارة راسخة مرموقة،‮ ‬لا تخطئ عين الباحث أن‮ ‬يلاحظ كيف أن كلا منها كان‮ ‬يمتلك‮ "‬خريطة نهوض‮"‬،‮ ‬ربما لم تكن معلنة ومنصوصا عليها فى صفحات،‮ ‬لكن استقراء كل الوقائع والتحركات،‮ ‬وكأنه بالفعل‮ ‬يلتزم بما‮ ‬يكون له من خريطة نهوض‮.‬

تستطيع أن تلحظ هذا فى الحضارة المصرية القديمة،‮ ‬كيف أن‮ "‬النزعة الدينية‮"‬،‮ ‬وتنشد مظاهر القوة،‮ ‬على المستويات العلمية والعسكرية والاقتصادية والتقنية،‮ ‬وتشكل فى مجموعها القَسَمات الواضحة لحركة الحضارة‮.‬

‮ ‬وعندما شهدت بلاد اليونان نظامين،‮ ‬تمثل أحدهما فى‮ "‬اسبرطة‮"‬،‮ ‬والآخر فى‮ "‬أثينا‮"‬،‮ ‬وكان الأول ذا توجه عسكرى شمولى،‮ ‬بينما الثانى كان ذا توجه ليبرالى‮ - ‬وفقا لمعايير ومفاهيم العصر‮ - ‬إذا بنظام التعليم فى كل منهما‮ ‬يختلف اختلافا واضحاً‮ ‬عن الآخر،‮ ‬مما جعل إسبرطة لا تترك آثارا حضارية،‮ ‬حيث كانت قِبلتها‮ "‬عسكرية‮"‬،‮ "‬شمولية‮"‬،‮ "‬استبدادية‮"‬،‮ ‬على عكس الأمر فى أثينا،‮ ‬مما مكنها أن تنجب مفكرين عمالقة مثل‮: ‬سقراط،‮ ‬وأفلاطون،‮ ‬وأرسطو،‮ ‬وغيرهم من أدباء،‮ ‬وفنانين،‮ ‬وساسة‮.‬

والذى‮ ‬يتأمل مسيرة الحضارة العربية الإسلامية عبر قرون متعددة،‮ ‬ومنذ بدايتها،‮ ‬سوف لا‮ ‬يخطئ البصر بأن كل ما قام فيها من نظم تعليمية تمثلت فى الكتاتيب،‮ ‬والمدارس والمساجد،‮ ‬فضلا عن مؤسسات أخرى‮ ‬غير نظامية،‮ ‬مثل‮ "‬الخوانق‮"‬،‮ ‬و"الرُّبُط‮" ‬و"الزوايا‮"‬،‮ ‬وما كان‮ ‬يتم من تعليم فى كل مؤسسة،‮ ‬سواء من حيث تسمية المقررات،‮ ‬وظهور العلوم المختلفة،‮ ‬سوف‮ ‬يلاحظ بكل‮ ‬يسر،‮ ‬أنها فى مجموعها كانت تصطبغ‮ ‬بصبغة دينية بعينها،‮ ‬وكأن هناك‮ "‬نوتة موسيقية‮"‬،‮ ‬وهناك‮ "‬مايسترو‮" ‬يشير بحركة‮ ‬يده إلى مختلف العازفين،‮ ‬الملتزمين بما فى‮ "‬النوتة‮"‬،‮ ‬لا‮ ‬يستطيع أحد أن‮ ‬يشذ عنها‮.‬

والأمر نفسه،‮ ‬فى دول مختلفة،‮ ‬ونظم سياسية متعددة‮...‬

إن هذا الذى نلح عليه،‮ ‬لا نزعم أنه جديد،‮ ‬فهناك هذا التساؤل الملح الذى‮ ‬يسأله المصريون منذ زمن بعيد‮: ‬من نكون؟ وماذا نريد؟

‮ ‬كانت أبرز الفترات التى علَت فيها الأصوات بمثل هذين التساؤلين،‮ ‬ربما الفترة التى تلت قيام ثورة‮ ‬1919،‮ ‬وزادت إلحاحا بعد نيل الاستقلال الرسمى عام‮ ‬1922‮ ‬،‮ ‬وتباينت الردود،‮ ‬وتعددت الإجابات فيما عُرف من اتجاهات‮: ‬عروبى‮.. ‬إسلامى‮.. ‬مصرى‮.. ‬تغريب‮.. ‬فرعونية،‮ ‬وهكذا،‮ ‬وفى داخل كل اتجاه،‮ ‬تعددت ألوان الطيف،‮ ‬وتوزع مفكرو مصر ومثقفوها بين هذه الاتجاهات،‮ ‬وما تضمنته من ألوان طيف‮..‬

وقد أشاع البعض عن سعد زغلول عدم إيمانه بالتوجه العروبى،‮ ‬وزعموا أنه،‮ ‬أثناء مؤتمر الصلح الذى عقد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى،‮ ‬اقترح عليه نفر من المستشارين بأن تتعاون مصر مع ممثلى المناطق العربية فى مطلب الاستقلال،‮ ‬خاصة فى منطقة الشام،‮ ‬فأجاب متسائلا‮: ‬ما هو حاصل جمع صفر زائد صفر،‮ ‬زائد صفر؟ النتيجة الإجمالية سوف تكون صفرا‮.‬

وأنا لا أستطيع أن أؤكد إن كان هذا قد حدث بالفعل،‮ ‬أم أنه‮ "‬إشاعة تاريخية"؟ ذلك أن ثقتنا فى رجاحة عقل الزعيم وحنكته السياسية،‮ ‬ربما فضلت أن نركز أولا على القضية المصرية،‮ ‬حتى نستطيع،‮ ‬بعد ذلك أن نمد‮ ‬يد التعاون مع دول المحيط العربى‮.‬

بل إن الوثيقة السياسية الشهيرة عن ثورة‮ ‬يوليو‮ ‬1952‮ ‬التى عرفت باسم‮ "‬ميثاق العمل الوطنى‮"‬،‮ ‬قد عابت على ثورة‮ ‬1919‮ ‬أنها لم تمد نظرها إلى ما وراء سيناء‮..!‬

لكن وقائع التاريخ تؤكد أن العمل العربى الموحد،‮ ‬بصفة رسمية إنما بدأ فى عهد وزارة الوفد برئاسة مصطفى النحاس،‮ ‬منذ أوائل عام‮ ‬1944،‮ ‬والذى تمخض فيما بعد بعدة شهور عن إنشاء جامعة الدول العربية عام‮ ‬1945‭.‬

ومهما اختلفنا حول تقييم ثورة‮ ‬يوليو‮ ‬1952،‮ ‬فهذا ليس موضوعنا،‮ ‬لكن لا أحد‮ ‬يمكن أن‮ ‬ينكر أنها كانت تمتلك مشروعا،‮ ‬أيضا بغض النظر عن تقييمنا له،‮ ‬ساعدها على أن تفعل،‮ ‬أو لا تفعل كذا وكذا‮.‬

إن وظيفتنا هنا ليست الإجابة عن التساؤلين المهمين،‮ ‬المحددين لحركة الأمة،‮ ‬سابق الإشارة إليهما،‮ ‬وهما‮: ‬من نحن ؟ وماذا نريد؟ وإنما هى التشديد على ضرورة أن تتوفر لدينا‮ - ‬كجماعة‮ - ‬الإجابة عنهما‮.‬

ليس معنى هذا مصادرة حق كل إنسان أن تكون له رؤاه،‮ ‬فكم من مناقشات،‮ ‬وكتابات وأبحاث،‮ ‬ومحاضرات،‮ ‬عبر ما قد‮ ‬يصل إلى قرن من الزمان‮ ‬،‮ ‬سعت إلى هذا،‮ ‬بل إننا لا نظن أن أحدا لا‮ ‬يملك الإجابة عن هذين التساؤلين بما فى ذلك كاتب هذه السطور فى كتاب صدر منذ أربع سنوات بعنوان‮ (‬الهوية والتعليم‮).. ‬لكن الأشد إلحاحا،‮ ‬هو توفر‮ "‬رؤية عامة‮"‬،‮ ‬تعبر عن أمة‮.‬

وها هنا تكمن المشكلة الأساس للتعليم فى مصر،‮ ‬إذ‮ ‬يجب أن نعترف بغياب التوافق الوطنى على‮ "‬خريطة نهوض حضارى‮"‬،‮ ‬تقوم على التحديد الدقيق عن‮: ‬من نحن.؟ وماذا نريد؟ ولعل أبرز ما‮ ‬يمكن الإشارة إليه هنا،‮ ‬ما‮ ‬يتضمنه الدستور،‮ ‬المعبر عن الخريطة الكلية للمسيرة المجتمعية،‮ ‬من نصوص،‮ ‬بعضها‮ ‬ينتمى إلى الخمسينيات والستينيات،‮ ‬حيث كانت‮ "‬القِبلة‮" ‬مختلفة كثيرا،‮ ‬كأن تجد نصوصا تؤكد على الرأسمالية والليبرالية‮ ‬،‮ ‬بينما هناك نصوص أخرى تؤكد على الشمولية والاحتكار السياسى،‮ ‬حتى أصبح النص الخاص‮ - ‬مثلا‮ - ‬بتخصيص نسبة‮ ‬50٪‮ ‬للعمال والفلاحين فى البرلمان مثار سخرية الجميع،‮ ‬فضلا عن‮ "‬سيولة‮" ‬واضحة فى مضمون العامل والفلاح‮ ‬،‮ ‬تمكن من التلاعب والتحايل‮!‬

إن هذا‮ "‬التيه الحضارى،‮ ‬كان لابد أن‮ ‬يؤدى بكل وزير‮ ‬يتولى شأن التعليم،‮ ‬أن تكون له رؤيته الخاصة،‮ ‬أو رؤية من‮ ‬يعملون معه من مستشارين،‮ ‬فيسعى إلى ترجمتها على أرض التعليم،‮ ‬ويجىء بعده وزير آخر،‮ ‬لا‮ ‬يقتنع برؤية سابقه،‮ ‬وتكون له رؤيته هو الخاصة،‮ ‬فيهدم ما بناه سابقه‮ ‬،‮ ‬ويبدأ البناء من جديد‮.. ‬وهكذا،‮ ‬مما‮ ‬يفقد تعليمنا القدرة على الحركة الموجهة برؤية متعمقة كلية،‮ ‬تعبر عن الجمهرة الكبرى من ابناء الأمة،‮ ‬والمصالح القومية العامة‮.‬

ولعل أبرز ما‮ ‬يمكن أن نشير إليه بهذا الشأن،‮ ‬هو مشروع نظام الثانوية العامة،‮ ‬الذى استغرق إعداده عدة سنوات أيام وزارة الدكتور‮ ‬يسرى الجمل،‮ ‬وقيل إنه عُرض على مجلس الوزراء،‮ ‬وحظى بالموافقة،‮ ‬بل وتحديد جدول زمنى لتطبيقه،‮ ‬حتى إذا ذهب الجمل،‮ ‬وجاء بدر،‮ ‬برزت العلة الفرعونية المحزنة‮ ..‬لقد أعاد الرجل التفكير مرة أخرى،‮ ‬وكان لابد أن تكون تغييرات،‮ ‬حتى أصبح أبناء الوطن من الصغار،‮ ‬الذين‮ ‬يعدون بالملايين،‮ "‬فئران تجارب‮"‬،‮ ‬ولن نتخلص من هذا الداء الوبيل،‮ ‬إلا بتوافق وطنى حول السؤالين المهمين‮: ‬من نحن؟ وماذا نريد؟ وبناء على ذلك،‮ ‬يمكن تحديد سياسة مستقرة للتعليم،‮ ‬وهو الأمر الذى نأمل أن نتناوله‮.‬