بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

حين يتوقف الزمن قليلًا لنراجع أنفسنا

مع اقتراب عقارب الساعة من منتصف ليل الحادي والثلاثين من ديسمبر، تتشكل لحظة زمنية استثنائية، لا تُقاس بالأرقام ولا تُختصر في تبدل صفحات التقويم، بل تتجاوز ذلك لتلامس الوجدان الإنساني في أعمق حالاته، إنها لحظة يختلط فيها الأمل بالترقب، ويتوقف فيها الزمن كأنه يمنح الإنسان فسحة قصيرة للتأمل والمراجعة، ومساءلة الذات عما مضى، وما ينبغي أن يأتي.
ومع انبلاج فجر عام جديد، تنبض القلوب بطاقة مختلفة، وتستيقظ الرغبة الصادقة في التغيير، كأن الحياة تفتح صفحة بيضاء، وتدعو الإنسان إلى أن يخط عليها بوعيٍ أكبر ونية أصلح، مستعيدًا إيمانه بإمكانية البدء من جديد، فهمًا للماضي، وتصحيحًا للمسار، وتجديدًا للعهد مع الله، ومع الذات، ومع القيم التي تمنح الوجود معناه الأعمق.

تمثل بداية العام لحظة تأمل واعٍ، يقف فيها الإنسان أمام حصاد تجربته؛ ما أنجزه، وما تعثر فيه، وما تعلمه من دروس. إنها وقفة هادئة تُستدعى فيها الذكريات لا للندم، بل للفهم والتقييم واستخلاص العبر، فالماضي، مهما حمل من إخفاقات، يظل خزان خبرة لا غنى عنه لصناعة مستقبل أكثر نضجًا واتزانًا، ويغدو العام الجديد فرصة حقيقية لطي صفحة، لا نسيانها، بل التعلم منها، وفتح أخرى أوسع للأحلام والطموحات، ولعل النفس البشرية بطبيعتها تميل إلى البدايات، وتجد فيها دافعًا فطريًا لإعادة المحاولة، مهما تكررت العثرات.

وتبرز الأهداف كأحد أهم معالم هذه البداية؛ فهي ليست مجرد أمنيات، بل رؤى قابلة للتحقق، تنطلق من وعي بالذات وبالواقع،  وإعادة النظر في الأهداف أو صياغة أخرى جديدة تعكس نضجًا فكريًا وقدرة على التعلم من التجربة. فالبدايات الواعية تُبنى على فهم ما كان، واستيعاب ما هو كائن، واستشراف ما يمكن أن يكون، ويحمل العام الجديد وعدًا ضمنيًا بإمكانية التحسن، شريطة أن يقترن الأمل بالعمل، والطموح بالاجتهاد، فالتغيير لا يتحقق بالرغبة وحدها، بل يحتاج إلى إرادة منضبطة، وصبر، وتخطيط واعٍ للمستقبل.

ويمثل العام الجديد كذلك فرصة للتصالح مع الذات والآخرين، ولمراجعة العلاقات الإنسانية وتجديد الروابط مع الأهل والأصدقاء، وفتح صفحات جديدة تقوم على التسامح وتجاوز الخلافات، فالحياة شبكة معقدة من العلاقات، ولا يكتمل شعور الإنسان بالسلام الداخلي وهو مثقل بقطيعة أو خصومة مؤجلة، ومن هنا، فإن أي بداية جديدة لا تكتمل دون مصالحة داخلية وخارجية تعيد للروح توازنها وللقلب صفاءه.

وليكن العام الجديد منطلقًا للأمل والإيجابية في مواجهة الواقع، فالنظرة الإيجابية لا تعني إنكار التحديات، بل الإقرار بها مع الإيمان العميق بالقدرة على تجاوزها، وهكذا يصبح التفاؤل طاقة داخلية متجددة تدفع الإنسان إلى الاستمرار، وتمنحه الثقة بأن في كل تحد فرصة للتعلم والنمو. فالمحن تُنبت الصبر، والفشل ليس نهاية الطريق، بل محطة لإعادة التقييم وترتيب الأولويات وبناء الخبرة.

وفي مطلع كل عام تتجلى قيمة الإصرار بوصفها أساس كل بداية صادقة؛ فالإصرار على المحاولة، والنهوض بعد التعثر، هو ما يحول الأحلام من أمنيات مؤجلة إلى إنجازات ملموسة، ولا تقل التفاصيل الصغيرة شأنًا عن الطموحات الكبرى، فالأفعال البسيطة قادرة على صناعة أثر حقيقي، واللطف، والتعاطف، ومبادرات الخير اليومية تشكل رصيدًا إنسانيًا تراكميًا يعزز الثقة في الإنسان ويجعل العالم أقل قسوة وأكثر رحمة. وهكذا يصبح العام الجديد ليس مجرد موسم للأمنيات، بل مساحة للفعل الواعي، ومسؤولية أخلاقية تُترجم الأمل إلى سلوك متجدد وأثر طيب.
كما يمثل العام الجديد فرصة مناسبة لإعادة النظر في العادات اليومية التي تشكل نسيج الحياة الخفي، فالتغيير الإيجابي لا يشترط دائمًا قرارات جذرية أو قفزات مفاجئة، بل قد يبدأ بخطوات صغيرة واعية، كتحسين نمط الحياة، أو تخصيص وقت للرياضة أو القراءة، أو تعلم مهارة جديدة، وهذه التغييرات، وإن بدت بسيطة، فإن أثرها التراكمي يكون عميقًا ومستدامًا. 
وفي المقابل، فإن التخلص من العادات السلبية خطوة أساسية في مسار التحسن الذاتي، إذ يمنح الإنسان شعورًا متناميًا بالسيطرة على مساره، ويجعل التغيير فعلًا متدرجًا قابلًا للاستمرار.

ويحتل الامتنان مكانة محورية في فلسفة البدايات الجديدة؛ فهو ممارسة واعية تعيد توجيه الانتباه من منطق النقص إلى منطق الوفرة، و حين يقدّر الإنسان ما يملكه، ماديًا كان أو معنويًا، يزداد شعوره بالرضا الداخلي، ويخفف من وطأة القلق والتوتر، كما يسهم الامتنان في تعزيز الصحة النفسية وبناء علاقات إنسانية قائمة على الاحترام والتقدير المتبادل، ليصبح قوة ناعمة تشجع على العطاء وتدعم روح التضامن في المجتمع.

ويمنح الاحتفال ببداية العام مع العائلة والأصدقاء شعورًا بالانتماء ودفئًا إنسانيًا خاصًا، تبقى آثاره في الوجدان طويلًا، وبينما ينشغل الإنسان بالتخطيط للمستقبل، تظل اللحظة الحاضرة هي المجال الوحيد الذي يتحول فيه الأمل إلى واقع، ومن ثم، فإن العام الجديد دعوة مفتوحة لحياة أكثر وعيًا وتوازنًا، نجعل فيها من كل يوم فرصة جديدة، ومن كل تجربة درسًا، ومن الأمل قوة دافعة للعمل، فالمستقبل يُبنى خطوة خطوة، بعقل متفائل، وقلب ممتن، وإرادة لا تعرف الاستسلام.

وفي ختام عام وبداية آخر، يبقى الزمن شاهدًا لا يجامل، ويظل الإنسان هو المسؤول الأول عن اختياراته وصدق نواياه، فالعمر لا يُقاس بعدد الأيام، بل بعدد اللحظات التي نحسن فيها الاختيار، وننتصر فيها على اليأس، ونقترب خطوة من صورتنا الأفضل، فليكن التغيير مسؤولية تتجدد كل صباح، ولنجعل من أيامنا القادمة بلسمًا لنا ولمن حولنا، نصنع فيها الخير، ونزرع الأمل، فالعمر يمضي سريعًا، وما يبقى حقًا هو أثر الحب والعمل والإيجابية.