بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

فيلم «رسالة»… السينما كفعل مقاومة والإرادة كقوة بصرية

بوابة الوفد الإلكترونية

يأتي الفيلم التسجيلي القصير «رسالة» للمخرجة نسمة أبو هيف، كمشروع تخرج من المدرسة العربية للسينما والتليفزيون تحت إشراف الدكتورة منى الصبان، ليقدّم تجربة سينمائية تتجاوز كونها عملاً توثيقيًا عن شخص من أصحاب الهمم، إلى خطاب بصري وإنساني عميق يعيد طرح مفاهيم القدرة، والإعاقة، والإرادة، ودور الفن في إعادة تشكيل الوعي.

الفيلم لا يكتفي بسرد حكاية، بل يطرح موقفًا واضحًا من العالم؛ موقف يرى أن الإعاقة ليست نقصًا في الجسد، بل اختلالًا في نظرة المجتمع، واستسلامًا نفسيًا قبل أي شيء آخر. ومن هنا تأتي قوة «رسالة» بوصفه عملاً يشتبك مع الفكرة بوعي، لا بالشفقة، ويقدّم الإنسان لا بوصفه حالة، بل تجربة كاملة.

الفكرة والبناء الدرامي

تنطلق فكرة الفيلم من رؤية لحكاية المخرج سامح صبري، أحد أصحاب الهمم والإرادة الخاصة، الذي لم تمنعه إعاقته الجسدية من عشق السينما والفن، ولا من التعمق في التراث والتاريخ المصري القديم، بل على العكس، أصبحت هذه الإعاقة جزءًا من وعيه الخاص بالعالم، وطريقته المختلفة في الإدراك والتعبير.

يعتمد البناء الدرامي للفيلم على التدرج الهادئ، حيث لا يبدأ بالقمة أو بالإنجاز، بل بالإنسان نفسه: علاقته بذاته، وشغفه، وإصراره على التعلم. هذا الاختيار يضع المتلقي منذ اللحظة الأولى في مواجهة تجربة إنسانية حقيقية، لا إنجازات معزولة عن سياقها.

لا يتبع الفيلم السرد الخطي التقليدي، بقدر ما يعتمد على تراكم التجربة، بحيث تتشكل صورة سامح تدريجيًا، من خلال التفاصيل الصغيرة: طريقته في التفكير، حديثه عن السينما، علاقته بالتاريخ، وإيمانه بأن الفن وسيلة بقاء ومقاومة.

ثانيًا: سامح صبري… الشخصية بوصفها خطابًا

تقدّم المخرجة سامح صبري ليس فقط كبطل للفيلم، بل كـ حامل للرسالة الأساسية. فهو نموذج لإنسان أعاد تعريف ذاته خارج القوالب الجاهزة، ولم يسمح للإعاقة الجسدية أن تتحول إلى إعاقة فكرية أو نفسية.

يركز الفيلم على رحلة سامح في تعلم السينما داخل المدرسة العربية للسينما والتليفزيون، وكيف تحولت هذه التجربة التعليمية إلى مساحة لاكتشاف الذات، وبناء لغة بصرية خاصة به. ومن خلال هذه الرحلة، يتجسد الإيمان الحقيقي بأن التعليم والمعرفة هما أول مفاتيح التمكين.

يتوقف الفيلم عند تجربتيه السينمائيتين:

«عظمة الأجداد»: فيلم استطاع من خلاله سامح أن يعبّر عن شغفه بالحضارة المصرية القديمة، وينال عنه عدة جوائز.

«الرحلة»: استكمال لمشروعه التوثيقي والوجداني، حيث تتحول الحضارة من مجرد تاريخ إلى تجربة حية.

في هذين الفيلمين، لا يقدّم سامح التاريخ بوصفه ماضيًا جامدًا، بل كذاكرة ممتدة، وكقوة كامنة يمكن للإنسان المعاصر أن يستمد منها المعنى والهوية.

ثالثًا: الإدراك الحسي والجسد كأداة تعبير

أحد أكثر عناصر الفيلم عمقًا وتأثيرًا هو تركيزه على إدراك سامح الحسي والعقلي والبصري للعالم، واستخدامه إصبع يده اليمنى كوسيلة أساسية للتعامل مع أدوات السينما.

هنا يتحول الجسد من كونه موضوعًا للإعاقة، إلى أداة للخلق. وتنجح المخرجة في تحويل هذا التفصيل إلى رمز بصري بالغ الدلالة:
رمز يؤكد أن الإبداع لا يحتاج إلى جسد كامل بقدر ما يحتاج إلى عقل واعٍ وإرادة حرة.

هذا الطرح يضع الفيلم في مواجهة مباشرة مع الفكرة السائدة عن “القدرة”، ويقترح بديلًا أكثر إنسانية وعمقًا، يرى أن الإنسان لا يُقاس بما ينقصه، بل بما يفعله بما يمتلكه.

رابعًا: اللغة الإخراجية والمعالجة البصرية

تعتمد نسمة أبو هيف في إخراجها على الهدوء والبساطة، بعيدًا عن أي استعراض بصري أو عاطفي. الكاميرا هنا ليست متطفلة، بل مراقبة، تمنح الشخصية مساحتها، وتترك للصورة أن تتنفس.

الكادرات غالبًا ثابتة أو هادئة الحركة، ما يعكس حالة التأمل والصدق ، الإيقاع متزن، يسمح للمعلومة والمشاعر أن تصل دون ضغط أو استعجال.

المونتاج يخدم الفكرة لا العكس، ويعتمد على الربط المعنوي أكثر من الربط الزمني ، هذا الأسلوب يمنح الفيلم طابعًا تأمليًا، ويضع المتلقي في حالة مشاركة ذهنية، لا استهلاك سريع.

يلعب الصوت في «رسالة» دورًا تكميليًا بالغ الأهمية. فالموسيقى – إن وُجدت – تأتي بحذر، دون أن تفرض شعورًا معينًا على المشاهد. كما يعتمد الفيلم على صوت الشخصية نفسه، باعتباره المصدر الأساسي للصدق والتأثير ، هذا الاختيار يعكس وعيًا إخراجيًا بأهمية الاقتصاد السمعي في الأفلام التسجيلية، ورفض التلاعب العاطفي، لصالح بناء إحساس نابع من الفكرة ذاتها.

لا يحمل الفيلم اسمه عبثًا؛ فـ «رسالة» هو في جوهره خطاب مفتوح إلى العالم، يدعو إلى الاستيقاظ من الأفكار المسبقة، وإعادة النظر في مفهوم الإعاقة، والاختلاف، والنجاج الصرخة التي يطلقها الفيلم ليست صاخبة، بل عميقة وواعية، تؤكد أن:الإعاقة الحقيقية هي الإعاقة النفسية والفن يمكن أن يكون وسيلة تحرر وتمكين والإرادة قادرة على إعادة تشكيل الواقع.

«رسالة» ليس فيلمًا عن شخص من ذوي الهمم، بل فيلم عن الإنسان حين يقرر ألا يستسلم ، هو عمل يضع السينما في موقعها الحقيقي: كأداة وعي، ومقاومة، وتغيير ، ويؤكد أن الشغف حين يقترن بالإيمان بالذات، قادر على تحويل أبسط الأدوات إلى لغة، وأصعب الظروف إلى بداية.