ميلاد السلام في زمن القرى الظالمة
ليلة ميلاد السيد المسيح ليست مناسبة دينية عابرة، ولا طقسًا روحيًا منفصلًا عن الواقع، بل لحظة كاشفة يُعاد فيها طرح السؤال الأخلاقي الأكبر: لماذا يفشل الإنسان، في كل مرة، في حماية معنى السلام؟ في الليالي التي يُفترض أن تُضاء فيها الأرض بالمحبة، تُطفأ القيم، وتُدار الحروب من خلف المكاتب، ويُترك الأطفال في العراء بلا مأوى ولا دواء ولا مستقبل. في عالمٍ يتقن القسوة، يولد السلام وحيدًا بلا حراس.
هذه رسالة، لعلها تصل إلى مسامع أمراء الحرب، وسماسرة السياسة، وتجار الدم. صرخة شيوخٍ وأطفالٍ ونساء، تحت الحصار والجوع والبرد. صرخة أطفال غزة، الذين لم يواجهوا القصف وحده، بل واجهوا سوء الطقس، وانقطاع الدواء، وسياسات التجويع المتعمدة، كأن الميلاد لا يُسمح له أن يمر من هناك. وصرخة بشرٍ هربوا من الحروب في عالمنا العربي، من دولٍ تحولت إلى خرائط نفوذ، ومن أوطانٍ لم تعد تملك قرارها، فابتلعتهم البحار، وتحولت الشواطئ إلى مقابر مفتوحة لأجسادٍ دفعتها سياسات القهر واليأس إلى الهروب، ثم تركتها للموت الصامت.
في نهاية هذا العام، لا يهدد البشرية وباءٌ واحد، بل منظومة كاملة من الكوارث المصنوعة سياسيًا: مجاعات تُدار ببرود الحسابات، وشحّ مائي يُستخدم كسلاح ضغط، وتصحر نتيجة نهب الموارد، وأوبئة تولد من الفقر والحصار وانهيار الدولة، بينما يستمر الخطاب العالمي في التظاهر بالدهشة. وفي بقاعٍ أخرى من هذا الكوكب، تستمر الحروب تحت الصقيع وفي طقسٍ قاسٍ، حيث يموت البشر بردًا وجوعًا وخوفًا، بينما تُدار المفاوضات على الخرائط لا على الأرواح.
وسط هذا الركام، تعود الصرخة القديمة المتجددة، صرخة النبي يحيى في البرية، وصرخة السيد المسيح، التي لم تكن يومًا دعوة عزلة، بل مواجهة أخلاقية مباشرة مع السلطة حين تنفصل عن الرحمة. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾. وفي ليلة شتاءٍ بارد، وُلد طفلٌ بلا أب، من مريم العذراء الطاهرة البتول، من بيت النبوة، ليكون الكلمة، وليعيد تعريف القوة بوصفها رحمة، والعدل بوصفه أساس الحكم لا ترفًا أخلاقيًا. وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى﴾.
لم يأتِ المسيح ليؤسس دولة، ولا ليحكم مدينة، بل ليكشف زيف المدن التي تُدار بالصفقات، وتُشترى بالمال السياسي، وتُقدَّم فيها السلطة على الإنسان. وهنا تتجلى القرية الظالمة، لا كمكانٍ في التاريخ، بل كنموذجٍ يتكرر. أورشليم لم تكن استثناءً، بل مرآة. وكل قرية تُباع بالمال السياسي، وكل مدينة تُدار بمنطق المصالح لا القيم، وكل دولة يُقدَّم فيها النفوذ على العدالة، هي أورشليم جديدة مهما تغيّر الاسم وتبدّل الزمان.
حين وقف المسيح أمام السلطة، لم يدافع عن نفسه، لا ضعفًا ولا استسلامًا، بل ازدراءً لمنطق الحكم القائم على القهر. لم يمنح الطغيان شرعية الاعتراف، لأنه كان يعلم أن السلطة التي تخاف الكلمة تخاف الحقيقة، وأن الفكرة التي تولد من المحبة لا تُقتل حتى لو صُلب صاحبها. قال تعالى: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾.
السلام هنا ليس شعارًا احتفاليًا، بل موقفًا أخلاقيًا وسياسيًا. سلام لا يُفرض بالقوة، ولا يُدار بالبنوك، ولا يُشترى بالتحالفات، بل يُبنى بالعدل ويُحمى بالضمير. القدس، القرية الظالمة الأولى، حيث تواطأت السلطة مع المال، والدين مع السياسة، لا تزال حتى اليوم مرآة فاضحة لكل نظام يعيد إنتاج المعادلة ذاتها، ويطلب من الضحايا الصمت باسم الواقعية. ورغم الصلب، لم تمت الرسالة، لأن الأفكار التي تولد من المحبة لا تموت، ولأن التاريخ، مهما طال، لا ينحاز إلا للحق.
في نهاية هذا العام، لسنا بحاجة إلى تهاني رسمية، بل إلى شجاعة الاعتراف بأن عالمنا لا ينقصه الدين، بل ينقصه العدل، ولا يحتاج مزيدًا من الخطب، بل مزيدًا من الإنسان. وتهنئة صادقة إلى إخوتنا الأقباط، شركاء الوطن، في أرضٍ قال الله عنها: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾. الأرض التي احتضنت المسيح طفلًا ستبقى، رغم كل شيء، شاهدًا على أن النجاة لا تكون بالمال السياسي ولا بالقوة العارية، بل بالحق.،،!!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب مصري وباحث في الجيوسياسية
[email protected]