محاضرة ثقافية توثّق ملامح الاقتصاد الكويت قبل اكتشاف النفط
استضافت الكنيسة الإنجيلية الوطنية بالكويت الباحث فهد العبدالجليل، رئيس الجمعية الكويتية للتراث، في محاضرة ثقافية وثّق خلالها ملامح الاقتصاد الكويتي في مرحلة ما قبل اكتشاف النفط، وسط حضور لافت من المثقفين والباحثين والمهتمين بالشأن الاقتصادي والتراثي، إلى جانب أعضاء الجمعية الكويتية للتراث.

وفي مستهل اللقاء، رحّب القس عمانويل غريب، راعي الكنيسة الإنجيلية الوطنية، بالمحاضر والحضور، مشيدًا بمسيرة فهد العبدالجليل البحثية وجهوده المتواصلة في توثيق التراث الكويتي، لا سيما التاريخ الاقتصادي الذي يمثل أحد أهم ركائز فهم نشأة الدولة وتطورها.
من جانبه، ثمّن فهد العبدالجليل دور القس عمانويل غريب في تحويل الكنيسة الإنجيلية الوطنية إلى ما يشبه «ديوانية ثقافية» مفتوحة، عبر ما تستضيفه من فعاليات ومحاضرات تُثري المشهد الثقافي والفكري في الكويت، وتعزز قيم الحوار والانفتاح.
«الكويت بلاد العرب»… شعار دولة ومجتمع
وتوقف العبدالجليل خلال محاضرته عند واحدة من أبرز المحطات التاريخية، وهي ارتباط مؤسسات الدولة والمجتمع الكويتي بشعار «الكويت بلاد العرب» خلال فترة حكم الشيخ عبد الله السالم الصباح (1950 – 1956)، حيث وجّه آنذاك الجهات الحكومية والشركات الخاصة لاعتماد الشعار في مراسلاتها الرسمية والتجارية، تأكيدًا لدور الكويت القومي الداعم للقضايا العربية.

وأوضح أن اللافت في هذا السياق هو التزام المؤسسات الدينية الكويتية بهذا التوجه، ومنها الكنيسة الإنجيلية، التي أصدرت وثائق رسمية تحمل الشعار ذاته. وفي هذا الإطار، أهدى العبدالجليل القس عمانويل غريب ثلاث نسخ من وثيقة تاريخية تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، صادرة عن الكنيسة الإنجيلية وتحمل عبارة «الكويت بلاد العرب».
شغف بالتاريخ… وموسوعة للاقتصاد القديم
وأشار العبدالجليل إلى أن شغفه بالتاريخ قاده إلى التخصص في التاريخ الاقتصادي، الذي درسه بأسلوب علمي ومنهجي، تُوّج بإصدار «موسوعة اقتصاد الكويت القديم»، كأول عمل بحثي شامل يتناول مراحل الاقتصاد الكويتي المبكرة، ويعيد قراءة التجربة الاقتصادية للكويت قبل التحول النفطي.
سر النشأة الاقتصادية
وأوضح أن الموقع الجغرافي كان حجر الأساس في نشأة الكويت اقتصاديًا، فعلى الرغم من افتقارها للموارد الطبيعية والمياه والزراعة، فإن ميناء الكويت القديم «الفرضة» شكّل حلقة وصل بين موانئ البحرين والبصرة والقطيف وساحل فارس، ما جعل الكويت مركزًا تجاريًا محوريًا في الخليج، وأسهم في ترسيخ مكانتها منذ البدايات.
وأكد أن الاقتصاد الكويتي قبل النفط كان اقتصادًا إنتاجيًا يعتمد على العمل والتجارة والضرائب، لا على الدعم الحكومي، مشيرًا إلى أن التجار وأصحاب السفن و«الطواويش» أدوا دورًا شبيهًا بدور البنوك اليوم، من خلال تمويل الأنشطة الاقتصادية، والإشراف على مواسم الغوص والسفر، في نموذج يعكس اعتماد المجتمع على ذاته.
الغوص… العمود الفقري للاقتصاد
وبيّن العبدالجليل أن الغوص على اللؤلؤ شكّل المصدر الأساسي للاقتصاد الكويتي قبل النفط، وكان يمارس على مدار العام، باعتباره العمود الفقري لمصادر الدخل. وتطرق إلى شدة المنافسة بين دول الخليج على «مغاصات» اللؤلؤ، لافتًا إلى أن أفضلها كانت في البحرين ومنطقة الزبارة في قطر.
وأضاف أن هذه المنافسة دفعت الكويتيين إلى التفكير في تنويع الاقتصاد، خاصة بعد انتقال الوكالة التجارية البريطانية من البصرة إلى الكويت، وهو ما اعتُبر حدثًا تاريخيًا مفصليًا، أعقبه ازدهار نشاط النقل التجاري باستخدام السفن الشراعية.
شهادات تاريخية على الازدهار
وتناول العبدالجليل ما أورده الوكيل السياسي البريطاني لويس بيلي خلال زيارته للكويت عام 1863، حيث أشار إلى أن الكويت كانت تصدّر سنويًا نحو 800 حصان عربي إلى الهند، وهو نشاط مثّل ما يقارب 10% من إجمالي إيرادات البلاد آنذاك، في دلالة واضحة على تنوع الموارد الاقتصادية.
كما استشهد بمذكرات الرحالة البريطاني جيمس بكنغهام، الذي زار الكويت عام 1816، ووصفها بأنها مدينة مزدهرة اقتصاديًا، مشيدًا بمينائها الذي اعتبره من أفضل موانئ المنطقة، وبحركة تصدير الخيول العربية إلى موانئ الهند الغربية.
واستحضر العبدالجليل تاريخ تأسيس الجمرك البحري عام 1899، بعد توقيع اتفاقية الحماية البريطانية، ليكون أول دائرة رسمية تُنشأ في عهد الشيخ مبارك الصباح، مشيرًا إلى أن ازدياد الحركة الملاحية دفع الشيخ مبارك إلى رفع الرسوم الجمركية من 3% إلى 5% ثم 7% على بعض السلع لتعظيم الإيرادات.
كما تطرق إلى دور التجارة البينية «القطاعة» مع دول الخليج، والتجارة البرية التي فرض عليها الجمرك البري رسومًا على القوافل التجارية، مبينًا أن السيد صالح العسكر، والد الشاعر فهد العسكر، كان مديرًا للجمرك البري في تلك الفترة، يعاونه السيد صالح الفضالة.
اقتصاد متكامل قبل النفط
وفي ختام محاضرته، أكد العبدالجليل أن الكويت قبل النفط اعتمدت على مواطنيها في الحرف اليدوية، وعلى رأسها صناعة السفن، حيث كان صانع السفينة وطاقمها وملاكها جميعهم كويتيين.
وأشار إلى شبكة النقل والتجارة الواسعة التي أسسها تجار الكويت، من خلال امتلاكهم أراضي نخيل في البصرة، وأساطيل بحرية ضخمة، ومكاتب تجارية في موانئ الهند، ما جعل الكويت مركزًا تجاريًا رئيسيًا يربط موانئ الشرق بالغرب.
واختتم بالإشارة إلى الأرقام التاريخية التي تعكس هذا الازدهار، حيث بلغ إجمالي إيرادات الكويت في عشرينيات القرن الماضي نحو 15 مليون روبية، مقارنة بما أورده لوريمر في «دليل الخليج» من أن إيرادات الكويت عام 1839 بلغت 500 ألف روبية، وصادراتها مليون روبية، في شهادة واضحة على تطور الاقتصاد الكويتي قبل عصر النفط.