بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

تعمد إثارة الجدل

منذ أيام وأنا أتابع ما قالته الإعلامية هند الضاوي في أحد برامجها، ثم إصرارها اللاحق على الدفاع عن هذه التصريحات عبر صفحتها الشخصية، وهو ما يفرض – من باب المسؤولية العامة – التوقف عند الأمر بهدوء وتحليل، بعيدًا عن الشخصنة أو التشكيك في النوايا، وذلك عبر ثلاث نقاط أساسية.

أولًا: في تحديد الموقع المهني
هند الضاوي، في نهاية المطاف، صحفية وكاتبة مقالات، برز اسمها إعلاميًا بعد لقاء تلفزيوني مع طرف إسرائيلي، ثم انتقلت سريعًا من الهامش إلى صدارة التريند، وبدأت تُقدَّم – وتُقدِّم نفسها – بوصفها “خبيرة”.
والحقيقة الموضوعية هنا أن السيدة لا تمتلك رصيدًا من الأبحاث العلمية أو الدراسات الأكاديمية المعترف بها في أي مؤسسة بحثية أو جامعة، ولا تُعد مرجعية علمية في مجالات التاريخ أو الدين أو العلوم السياسية. وهذا ليس انتقاصًا، بقدر ما هو وضع للأمور في إطارها الصحيح، حتى لا تختلط الأدوار بين الإعلامي والباحث.

ثانيًا: في تصريح «تجنيد 100 ألف مسيحي»
التصريح، بصيغته التي خرج بها، يعاني من خلل جوهري في الصياغة ويحمل شحنة طائفية خطيرة.
الأدق – سياسيًا وإعلاميًا – أن إسرائيل، بعد التراجع الحاد في صورتها الدولية، لا سيما عقب حرب غزة، تسعى إلى تجنيد مؤيدين وسفراء لروايتها من مختلف الخلفيات الدينية والفكرية: مسيحيين، مسلمين، يهود، بوذيين، ملحدين، وغيرهم. الهدف سياسي دعائي بحت، وليس دينيًا على الإطلاق.

الإصرار على تقديم الأمر وكأنه استهداف حصري للمسيحيين يفتح الباب أمام شحن طائفي غير مبرر في مجتمع يعاني أصلًا من هشاشة في الوعي العام، وقابلية عالية للاشتعال بسبب سوء الفهم.
والقول إن «المشاهدين فاهمين المقصود» قول نظري يتجاهل الواقع الاجتماعي؛ فالمواطن البسيط أو المراهق الذي يفتقر لأدوات التفكير النقدي سيتلقى الرسالة في إطارها الطائفي المباشر، دون أي تمييز بين سياق دولي عام وجيرانه أو زملائه في الوطن.
النتيجة ليست نقاشًا سياسيًا، بل احتقانًا مجتمعيًا وانقسامًا لا نملك ترف تحمّله.

سواء كان هذا الشحن عن قصد أو عن جهل، فالنوايا ليست محل نقاش، لكن المسؤولية الإعلامية تفرض حساب الأثر، لا الاكتفاء بحسن النية. ومن يراجع التعليقات المصاحبة لهذه التصريحات يدرك حجم الضرر الذي لحق بالنقاش العام.

ثالثًا: في مسألة سفر إشعياء
القول إن سفر إشعياء كُتب في القرن الخامس عشر يُعد خطأً تاريخيًا جسيمًا لا يختلف عليه باحث جاد.
فمخطوطات وادي قُمران (البحر الميت)، المكتشفة عام 1947، والتي خضعت لفحص علمي دقيق، تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وتحتوي على نص سفر إشعياء كاملًا، مطابقًا في جوهره للنص المعروف اليوم.
نحن إذن أمام نص موثق قبل ميلاد المسيح بنحو مئتي عام، فضلًا عن أن المسيح نفسه اقتبس من سفر إشعياء في القرن الأول الميلادي، وهو ما يجعل الادعاء بكتابته في القرن الخامس عشر غير قابل للتصديق تاريخيًا.

أما ما حدث بالفعل في القرن الخامس عشر، فكان مختلفًا تمامًا:
لم تُكتب النصوص، بل جرت محاولات تفسير وترجمة وترجيح بين قراءات قائمة. المثال الأشهر هو الآية المتعلقة بـ«ها العذراء تحبل وتلد ابنًا»، حيث إن الكلمة العبرية الأصلية “علماه” تُفهم في التراث اليهودي على أنها «الفتاة الشابة»، بينما اعتمدت الكنيسة ترجمة «العذراء»، وجرى تهميش الترجمات الأخرى في سياق لاهوتي معروف.
كما أُعيد تفسير بعض نصوص إشعياء المتعلقة بفكرة «شعب الله المختار» وفق السياق الديني والسياسي الأوروبي آنذاك، دون أن يعني ذلك كتابة نص جديد من الأساس.

ويُضاف إلى ذلك أن القرن الخامس عشر شهد حدثًا فارقًا في تاريخ البشرية، هو ظهور الطباعة، وهو ما سمح بطباعة الكتاب المقدس وتعميمه، بما فيه سفر إشعياء. أي أن السفر طُبع في هذا القرن، ولم يُكتب فيه، والفارق بين الأمرين واضح لكل دارس لتاريخ النصوص.

خاتمة
بعيدًا عن الخوض في النوايا، فإن مثل هذه التصريحات لا تُقاس فقط بجرأتها، بل بتأثيرها المباشر على السلم المجتمعي. وحين تتحول البرامج الحوارية إلى مصدر احتقان بدلًا من مساحة وعي، تصبح المساءلة واجبًا مهنيًا لا ترفًا.
الإعلام، في لحظات التحولات الكبرى، لا يملك رفاهية اللعب على التريند على حساب تماسك المجتمع.