بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

رسائل القاهرة الحاسمة

لم يكن التصريح المصرى الأخير بشأن احتمالية تفعيل آليات الدفاع المشترك مع السودان تصريحا عابرا أو محض رسالة دبلوماسية تقليدية، بل جاء كاشفا عن قراءة جديدة وحاسمة لطبيعة ما يجرى جنوب الحدود، فالقاهرة التى راقبت المشهد طويلا بصبر الدولة أعلنت بوضوح أن ما يحدث لم يعد خلافا داخليا أو صراع ميليشيات وإنما بات مسرحا مفتوحا لتدخلات إقليمية ودولية تهدد بشكل مباشر الأمن القومى المصرى، هذا الإعلان العلنى يؤكد أن مصر تنظر إلى السودان باعتباره خط الدفاع الأول عن أمنها القومى وأن أى محاولة لإعادة هندسة الدولة السودانية أو دفعها نحو الفوضى لن تمر باعتبارها شأنا داخليا، بل ستُقابل باعتبارها مساسا مباشرا بمعادلات الاستقرار فى الإقليم كله، إذًا هى رسالة ردع محسوبة لا تبحث عن تصعيد لكنها تضع خطوطا حمراء لا تسمح بتجاوزها.

وفى سياق متصل يتجدد الحديث عن اتفاقيات الغاز بين مصر وإسرائيل وكأنها سيف مسلط أو أداة ضغط على مصر، والحقيقة أن هذا الطرح يفتقر إلى الحد الأدنى من الفهم الاستراتيجى، فحصة الغاز الإسرائيلى لا تشكل سوى نسبة محدودة من استهلاك السوق المصرى، ما يُسقط تماما فرضية الابتزاز أو التأثير السياسى حتى لو توقفت الإمدادات بالكامل، الأمر الأهم أن مصر لم تعد دولة تعتمد على مصدر واحد للطاقة، فالدخول إلى عصر الطاقة النووية السلمية والتوسع غير المسبوق فى مشروعات الشمس والرياح والاستثمار الجاد فى الهيدروجين الأخضر، كلها عناصر تعكس تحولا جذريا فى فلسفة أمن الطاقة، وتمنح القاهرة هامش استقلال واسعا خلال السنوات المقبلة، أما اتفاقيات الغاز نفسها فهى محكومة بمنطق المصالح لا العواطف ومصر تحسب كل خطوة بالعائد الاستراتيجى والدليل أن محاولات التعطيل وإعادة التفاوض لم تأت من القاهرة بل من الطرف الآخر بعدما اكتشف أن الشروط الاقتصادية والتكلفة والعائد تصب فى صالح البنية التحتية المصرية لا العكس.

لم تقدم مصر تنازلا واحدا ولم تغير موقفا ولم تساوم على ثوابتها بل جرى تمرير الاتفاق تحت ضغوط دولية هدفت إلى حفظ التوازن الإقليمى، فى وقت حافظت فيه القاهرة على استقلال قرارها السياسى الكامل، هذا النهج يعكس مدرسة مصرية راسخة تفصل بوضوح بين السياسة والاقتصاد، وفى المقابل تتزايد المخاوف الإسرائيلية مع اتساع نطاق الحركة الاستراتيجية المصرية، خاصة فى الملف العسكرى، فمنذ سنوات ومصر تبنى قوة شاملة تبدأ من تنويع مصادر السلاح ولا تنتهى عند التصنيع المحلى والدخول فى سلاسل إنتاج عالمية، الطائرات المسيّرة المصرية الحديثة، وعلى رأسها منظومة جبار ليست مجرد سلاح جديد، بل تعبير عن قفزة نوعية فى التفكير العسكرى والصناعى تفتح الباب أمام مصر لتكون لاعبا مؤثرا فى سوق السلاح الإقليمى والدولى، بما يتناسب مع ثقلها الجيوسياسى.

وفى ظل انكفاء أدوار تقليدية فى الإقليم تبرز مصر باعتبارها الدولة الوحيدة القادرة على إعادة ضبط موازين القوى، لا ترفع صوتها بالتهديد ولا تبحث عن صدام، لكنها تفرض قواعد ردع تمنع أى طرف من اختبار صبرها، القاهرة اليوم لا تتحرك برد الفعل بل تصنع الفعل وتدير الإقليم بمنطق الدولة القادرة التى تعرف وزنها وتفرض استقرارا يُكتب بشروطها لا بإملاءات الآخرين.

حفظ الله مصر جيشا وشعبا وقيادة