حين يصبح الخطاب الديني ممارسة يومية
لم تكن تجربتي في التعاون مع وزارة الأوقاف، بوصفي منتدبًا من الهيئة الوطنية للإعلام، مجرد مهمة إدارية أو مشاركة عابرة في خطة إعلامية، بل كانت لحظة فاصلة أعادت ترتيب علاقتي بمفهوم «الخطاب الديني» ذاته. كنت قبلها أتابع – كغيري – النقاشات المحتدمة حول ضرورة تجديد الخطاب الديني، وأصغي إلى المؤتمرات والندوات، وأقرأ المقالات التي تتحدث عن الأزمة والحل والبديل، لكن شيئًا في داخلي ظلّ يفتقد الدليل العملي على إمكانية الانتقال من الكلام إلى التأثير الفعلي في حياة الناس.
حين دخلت إلى دائرة العمل المشترك مع وزارة الأوقاف، وتحديدًا في إطار المشاركة في الخطة الإعلامية للحملة الوطنية «صحّح مفاهيمك»، بدا لي أنني لا أنتقل إلى موقع جديد فحسب، بل أنتقل إلى مرحلة جديدة من الفهم. اكتشفت أن التجديد ليس مشروعًا نظريًا يُصاغ في قاعات المؤتمرات فقط، بل هو جهد يومي شاق، يبدأ من انتقاء الكلمة، ويمرّ بطريقة الإلقاء، وينتهي بمدى وصول الرسالة إلى قلب البسطاء في القرى والأحياء، لا إلى مسامع النخب وحدها.
منذ اللحظة الأولى، شعرت أنني لا أعمل على حملة إعلامية بالمعنى التقليدي، بل أشارك في ورشة وطنية كبرى لإعادة بناء الثقة بين الناس والدين، وبين الناس والمؤسسات الدينية.
حملة «صحّح مفاهيمك» تُبنى على فكرة بسيطة في ظاهرها، عميقة في جوهرها: تفكيك المفاهيم المغلوطة التي تسللت إلى وعي الناس عبر سنوات من الخطاب المتشدد، أو الفهم القاصر، أو التوظيف السياسي للدين. وهنا أدركت للمرة الأولى حجم المسؤولية الملقاة على الكلمة عندما تخرج من شاشة أو تُلقى من منبر.
رأيت عن قرب كيف تُدار النقاشات داخل غرف الإعداد: كيف يتم اختيار القضايا، وكيف تُصاغ الرسائل، وكيف تُراعى الدقة الشرعية واللغوية والإنسانية في آن واحد.
لم يكن الهدف أن «ننتصر» في جدل، بل أن نفتح نافذة في جدار مغلق في العقول. الرهان هنا ليس على الإبهار الإعلامي أو عدد المشاهدات، بل على ذلك التغيير الهادئ الذي لا يُقاس بالأرقام بقدر ما يُقاس بنبرة صوت متصل يقول: «أنا كنت فاهم غلط، ودلوقتي فهمت».
أكثر ما أثّر ويؤثر فيّ هو اكتشافي أن تغيير الخطاب الديني لا يعني أبدًا التخفف من الثوابت أو التنازل عن الأصول، بل يعني العودة الصادقة إلى جوهر الدين: الرحمة، الحكمة، العدل، والوعي بالواقع. أرى العلماء والدعاة المشاركين وهم يتعاملون مع الأسئلة الصعبة بلا توتر، بلا خوف من الاعتراف بالتعقيد، بلا ميل إلى الإجابات الجاهزة.
هناك فهم عميق بأن الإنسان المعاصر لا يبحث عن أوامر فقط، بل يبحث عن معنى، وعن طمأنينة، وعن عقل يُحاوره لا عقل يُمليه.
في تلك التجربة، لم أتعلم فقط كيف تُدار حملة إعلامية دينية، بل تعلّمت كيف أراجع الكثير من تصوراتـي الشخصية. كنت أظن أن الجمهور لا يهتم كثيرًا بالتفاصيل الفكرية، لكنني فوجئت بحجم التفاعل مع أبسط الرسائل حين تُقدم بصدق.
رأيت فلاحين وعمالًا وربات بيوت يتحدثون عن الفتاوى والمفاهيم الدينية بوعي متزايد، ويدركون الفرق بين الدين والتدين، وبين النص المقدس والتفسير البشري.
لحظاتٌ تجمعني ببعض الأئمة الشباب أراها من أجمل ما عشته في مراحل عملي المهني والثقافي، إنهم يناقشونني ليس كموظف إعلامي، بل كشريك في مشروع وطني.
لديهم إحساس حقيقي بأنهم يقفون في خط الدفاع الأول عن وعي الناس.
لم يكن دورهم وعظًا تقليديًا من فوق المنبر فحسب، بل مشاركة في الحياة اليومية للناس: في المدارس، في مراكز الشباب، في القرى النائية، في ساحات الحوار المفتوحة. هناك، رأيت الخطاب الديني وهو يخرج من الكتب إلى الشارع، ومن الشعارات إلى السلوك.
ومع الوقت، تسلّل إليّ شعور لم أعرفه من قبل في عملي الإعلامي: أنني لا أكتفي بنقل رسالة، بل أشارك في صناعة أمل. كان الأمل هو البطل الحقيقي في هذه التجربة... أمل في أن يتصالح الناس مع دينهم بعيدًا عن الغلو والتشدد، وأمل في أن تستعيد المؤسسة الدينية دورها التنويري، وأمل في أن يصبح الإعلام أداة بناء لا ساحة صراع فقط.
التجربة لا تخلو من التحديات، هناك مقاومة خفية أحيانًا، وسخرية علنية أحيانًا أخرى، من فكرة «تصحيح المفاهيم»، البعض يرى أنها محاولة للتجميل، وآخرون يظنونها خطابًا رسميًا جامدًا. لكن الاحتكاك اليومي بالناس علّمني أن الطريق إلى العقول ليس مفروشًا بالتصفيق، بل بالصبر، التغيير الحقيقي لا يحدث بضجيج، بل بتراكم هادئ يشبه نمو الجذور تحت الأرض.
أدركت خلال هذه التجربة أن أخطر ما يواجه الخطاب الديني في عصرنا ليس الهجوم الخارجي، بل سوء الفهم الداخلي. وأن مهمة الإعلام الديني ليست أن يردّ بعصبية، بل أن يشرح بحكمة. وأن يُخرج الدين من دائرة التسييس إلى دائرة القيم الإنسانية العامة التي يحتاجها كل إنسان: الصدق، الأمانة، الرحمة، احترام الاختلاف.
اليوم، وأنا أستعذب تلك التجربة، أشعر بامتنان صادق لما منحَتْني إياه من وعي جديد. لم يعد «تجديد الخطاب الديني» بالنسبة لي شعارًا يُرفع في المؤتمرات، بل صورة وجوه رأيتها، وأصوات سمعتها، وأسئلة حيّة لا تزال ترنّ في أذني. لقد رأيت التغيير وهو يمشي على قدمين، ويتحدث بلسان الناس، ويبتسم في القرى البعيدة.
صرت في تلك التجربة مؤمنًا بأن التحول من التنظير إلى الفعل ممكن، بل وضروري، وأن المؤسسات حين تتكامل – الإعلام، والدعوة، والتعليم – يمكنها أن تصنع فارقًا حقيقيًا، لم يعد الأمل بالنسبة لي فكرة مجردة، بل خبرة معيشة، وذاكرة حيّة، ومسؤولية مستمرة.
وربما كانت أعظم هدية منحتني إياها حملة «صحح مفاهيمك» هي أنها أعادت إليّ إيماني بدور الكلمة حين تخرج من القلب، وبقوة الفعل حين يستند إلى الصدق. علمتني أن الإصلاح لا يبدأ من الأعلى فقط، بل من القاعدة، من الشارع، من تفاصيل الحياة اليومية، من سؤال بسيط يطرحه شاب حائر، ومن إجابة صادقة تعيد إليه الطمأنينة.
وهكذا، لم تكن مشاركتي في تلك الحملة مجرّد محطة مهنية، بل كانت لحظة تحول إنساني وفكري. لحظة أدركت فيها أن الخطاب الديني حين يُجدَّد بصدق، لا يفقد روحه، بل يستعيدها. وحين يخرج من التنظير إلى الفعل، لا يُربك الناس، بل يحررهم من الخوف وسوء الفهم.
كاتب وإعلامي