بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

انقلاب الصورة..ما كشفته في ليبيا


لم تكن مجرد زيارة... لقد كانت ثورة في الإدراك، وزلزالا في الصور النمطية، وصفعة من الواقع لكل من ظن أن ليبيا مجرد أرض ممزقة وحطام..إنه المشهد الذي يذهل العقل ويشرح القلب: مدينة حية تتنفس أملًا، وشعب يرفض أن يكون رقمًا في معادلات النزاع. 
كانت صدمة مذهلة، كالصاعقة التي تهز الوجدان وتقلب الموازين..صدمة شعر بها كل من حطت بهم الطائرة على أرض "مطار معيتيقة" في طرابلس، لحضور "أيام طرابلس الإعلامية 2025". لقد جئنا وفي صدورنا خوف، وفي أذهاننا صورة قاتمة رسمها الإعلام بألوان الدم والدمار: مليشيات مسلحة، وخراب يلف المباني، وأمن مختفي، وشعب ممزق. هذه كانت "ليبيا" التي يعرفها العالم ولكن... يا للعجب! 
قبل الهبوط بدقائق، انظروا من النافذة، ماذا ترون؟ لا رصاص هنا... بل نخيل، لا دمار... بل بناء شامخ، لا خوف... بل بحر يغازل شاطئًا نظيفًا. لقد بدأت الحقيقة تعلن عن نفسها من السماء. 
وعلى الأرض، كانت المفاجأة الأكبر. ليس بالكلمات... بل بالقلوب المفتوحة. وفد من المسئولين على رأسهم السفير عبدالمطلب ثابت يستقبلون الضيوف بحفاوة تكسر حواجز القلق بالسلام والطمأنينة. ثم انطلقت بنا سيارات المراسم في رحلة عبر شوارع طرابلس النابضة بالحياة إلى الفندق في قلب المدينة. وياللعجب، وجدت حدائق تهمس بالسلام، وزحامًا مروريًا حيويًا يصرخ بالحياة، وكورنيشًا ساحرًا يخطف القلوب. أين نحن؟ هل سافرنا عبر الزمن إلى الإسكندرية في عز رونقها؟ كورنيش حر طليق، البحر يلامس روحك دون حواجز، والشواطئ الصافية تلاطم الرصيف الذي يشبه ألوان الإسكندرية بالأصفر والأسود، وسيارات الأجرة بنفس اللونين، والناس تتنفس نقاءً وهدوءًا. دمعت عيناي وأنا أقول في سري: لقد كذبوا علينا... كذب الإعلام ببجاحة! 
وفي السيارة، فتحت حواراً مع السائق، وأنا أسأله عن كل شيء تقع عليه عيني في الطريق، وبعد لحظات صمت، تحدث بلغة العاشق في محيط الحب لمصر، الرجل يعرف شوارع وحواري مصر، ليس في القاهرة فقط، بل امتدت قصصه إلى المحافظات من سوهاج وأسوان إلى الإسكندرية والبحيرة، من سيوة إلى سيناء. اكتشفت أنه يعرف مصر بتفاصيلها أكثر مني، وقال لنا: "أقضي شهرًا في ليبيا وشهرًا في مصر، حيث أزور مصر أكثر من ست مرات في العام ". ثم يتكرر المشهد في الفندق، حيث استقبلنا العجوز "عمرو الشريف" بابتسامته الدافئة حاملًا الحقائب لغرفتنا، إلى الشباب اللامعين في الوزارات، جميعهم يملكون قلبًا ليبيًا ينبض بحب مصر، ولكنهم يحملون غصة في حلوقهم من الظلم الإعلامي الفادح الذي طال بلادهم. 
وقالت إعلامية ليبية: "نحن نحب مصر... ولكننا نحزن لأن الصورة المصدرة لنا تجعلكم تخافون منا". هذا الكلام ليس شعارًا... لقد رأيته في عيون كل من قابلت، من أكبر مسئول إلى أصغر عامل. حب حقيقي لمصر وللشعوب المجاورة، ولكنهم يشعرون بالظلم لأن الباسبور الليبي ظلم بسبب صورة كاذبة. 
هنا أدركت اللعبة الكبرى. تذكرت صيحة السفير أحمد رشيد خطابي: "إعلامنا يجب أن نصنعه بأيدينا!". نعم، إنها حرب نفسية شرسة، لطخوا بها صورة أمة كاملة، ليبقى العرب ضعفاء مشتتين، بينما تُنهب ثرواتهم. هذه الحرب الباردة الشنيعة تقوم بهدم صورتنا أمام بعضنا البعض، وهدم الثقة في إمكانياتنا. 
إنها حرب تستهدف تشويه المنطقة بالكامل، حتى تستطيع جهات خارجية تنفيذ أجندتها في إثارة الفوضى وازدهار تجارة السلاح والمخدرات، ليغيب الشعب وسط الأزمات المادية، ويتناحر السياسيون على الحكم، بينما تسرق موارد المنطقة وثرواتها، كما حدث زمن الاحتلال، فالسيطرة الإعلامية اليوم هي شكل آخر من أشكال الهيمنة على ثروات المنطقة . 
ولكن رأيت العديد من الليبيين المثقفين يدركون هذه اللعبة، يعملون بكل همة على نهضة بلادهم وتوحيد الشعب، والذي أدهشني حقًا أن أغلب حكومة بنغازي من أبناء طرابلس في الغرب، والعكس صحيح. وهنا أيضًا ادركت كلمة عبدالحميد الدبيبة عندما قال: "إن الشعب الليبي واحد، ولكن الخلاف بين السياسيين فقط". 
نعم، وجدت شبابها يصر على النجاح والعمل كفريق بيد واحدة، وهذا تجسد بوضوح عندما شاهدت الوزير وليد اللافي وزير الدولة للاتصال والشئون السياسية، وفريق مكتبه كله من الشباب، ينجحون في تنفيذ حفل ختامي مبهر باستخدام التقنيات الحديثة، بدءًا من الفكرة وانتهاء بالتصوير والإخراج، الذي أذهلني أن يتم كل هذا بأيدي شباب ليبيين فقط. ثم تنقلنا حالة الانبهار إلى حفل عالمي في إعادة افتتاح المتحف الوطني بطرابلس، والذي تمت الاستعانة فيه بفرق أجنبية ودمجها مع مواهب ليبية جبارة ليخرج حفلًا مبهرًا يهز المشاعر. وهذا الاحتفال يحتاج لمقال آخر لتشريحه وتحليله، حيث قادنا بشكل فني أسطوري في رحلة عبر التاريخ الليبي العظيم، تنتهي بأغنية "أنا ليبي" التي هتفت لها القلوب، وجعلت كل الليبيين الحاضرين يشعرون بالعزة: "نعم، أنا ليبي... وأفتخر!". 
لم يكن سوى يومين... لكنهما يومان غيّرانا إلى الأبد. رأيت "بيت إسكندر" و"السجن العثماني" وقد تحولا إلى مراكز إشعاع ثقافي. سمعت عن "غدامس" المدينة الأسطورية. واكتشفت أن تراث ليبيا هو توأم روحنا في النوبة وسيناء! 
ولم أكن وحدي في هذا الانبهار! كل الشخصيات الإعلامية المصرية والدبلوماسية العربية التي قابلتها كانت في حالة صدمة إيجابية، من بينهم باسم يوسف الذي أكد خلال كلمته أنه تعجب مما رآه في ليبيا من أمن وسلام على عكس الأخبار التي تنشر، وأكد العديد من الإعلاميين العرب: "لقد ظلم الإعلام ليبيا!". الجميع كان خائفًا يترقب، فوجد واحة أمن وسلام. والعديد من الشخصيات كانوا يخشون الحضور إلى ليبيا، وكانت أسرهم في حالة قلق عليهم وتحاول منعهم من الذهاب إليها، ولكن الصدمة فاجأتهم عندما رأوا صورة مغايرة. 
نعم، التحديات موجودة... ولكن الإرادة أقوى! الشعب الليبي، حفيد عمر المختار، قادر على أن ينهض من جديد. رأيت في عيون شبابها شرارة التحدي وإصرار البناء. إنهم جيوش النهضة الحقيقية. 
فإلى كل من قال: "لا تذهبي إلى ليبيا"... ها أنا أعلن بأعلى صوتي: لا تصدقوا ما تشاهدونه على الشاشات اذهبوا وانظروا.. افتحوا قلوبكم قبل عيونكم.. لقد وجدت هناك شعبًا طيبًا كريمًا متواضعًا، وحرصهم على الضيوف كأنهم من أفراد أسرتهم. وجدت قلبًا نابضًا يحبنا، وشعبًا شجاعًا يبني، وحقيقةً تنتظر من يكتشفها. 
نعم، قد يكون هناك قلق في بعض الأحيان وبعض الاضطرابات، ولكن المؤكد أن الشعب الليبي قادر على توحيد نفسه، ويخرج من جديد منقذ كأسد الصحراء عمر المختار لينقذها من مطامع الدول الأجنبية، ويحمي ثرواتها، ويوحد شعبها. فمن نجح في طرد الاحتلال، سينجح أيضًا في حفظها من الطامعين، ويحمي بلاده من التدخلات الأجنبية، ويبني بلاده بسواعد شبابها، حيث رأيت جيلًا من الشباب القادة قادرين على تولي دفة السفينة والخروج بها من موجات الاضطرابات إلى شط الأمان.