بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

حين تتحوّل الخوارزميات إلى صندوق اقتراع خفي


لم يعد المشهد الانتخابي في مصر يُدار فقط من داخل اللجان أو عبر اللافتات والندوات التقليدية، بل انتقل ـ للمرة الأولى بهذا الوضوح والخطورة ـ إلى فضاء رقمي مفتوح، بلا حراسة ولا مساءلة. نحن أمام لحظة فارقة تتقاطع فيها التكنولوجيا مع المال السياسي، لتنتج شكلًا جديدًا من التوجيه غير المرئي للناخب، حيث تُصاغ القناعات خارج الصندوق قبل أن تُدلى الأصوات داخله.
في الدورات الانتخابية الأخيرة، برز استخدام مكثف لمنصات التواصل الاجتماعي كأداة مركزية للتأثير في الرأي العام المحلي داخل الدوائر، ليس عبر الدعاية المباشرة فقط، بل من خلال حملات منظمة لتشويه السمعة، وتصفية الخصوم سياسيًا وأخلاقيًا، باستخدام صفحات مجهولة الهوية، وحسابات وهمية، ومحتوى مُعد بعناية ليضرب في العمق: السمعة، والانتماء، والثقة المجتمعية.
التحول الأخطر لا يكمن في استخدام التكنولوجيا بحد ذاته، بل في دمجها بالمال السياسي. فالتكنولوجيا هنا لم تعد وسيلة محايدة، بل تحولت إلى ذراع ناعمة للنفوذ المالي، تُدار بها حملات مدفوعة تستهدف شرائح محددة من الناخبين، وفق خرائط اجتماعية ونفسية دقيقة. الإعلان لم يعد عامًا، بل مُفصل على قياس الدائرة، والقرية، والحي، بل أحيانًا على قياس العائلة أو الفئة العمرية.
هذا النمط الجديد من “الدعاية المظلمة” يعتمد على نشر الشائعات، وتضخيم الأخطاء، وصناعة قصص ملفقة، تُمرر في مجموعات مغلقة أو عبر منشورات ممولة لا تحمل توقيعًا سياسيًا واضحًا. والنتيجة أن الناخب يتلقى رسائل متناقضة، غير قابلة للتحقق، تُحدث ارتباكًا مقصودًا، وتُضعف قدرته على التمييز بين الحقيقة والتلاعب.
ما يحدث هنا هو انتقال المال السياسي من شكله التقليدي (الرشوة المباشرة أو الخدمات) إلى شكل أكثر تطورًا وخفاءً: شراء الوعي، وتوجيه المزاج العام، وخلق صورة ذهنية سلبية عن مرشح معين دون الحاجة إلى مواجهته سياسيًا أو برنامجياً. إنها معركة تُدار بالخوارزميات لا بالبرامج، وبالترند لا بالرؤية.
الأخطر من ذلك أن هذا الاستخدام للتكنولوجيا يتم في فراغ تشريعي ورقابي واضح. فلا توجد آليات فعالة لمراقبة الإنفاق الرقمي الانتخابي، ولا أدوات قانونية حاسمة لمساءلة الصفحات المجهولة أو تتبع مصادر تمويل الحملات الإلكترونية. وهنا تتحول الديمقراطية الشكلية إلى ساحة غير متكافئة، يُقصى فيها من لا يملك المال أو القدرة على خوض الحرب الرقمية.
إن هذه الظاهرة لا تهدد نزاهة الانتخابات فحسب، بل تُعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والسياسة. فالناخب الذي يُستهدف بالكذب والتشويه يفقد ثقته في الجميع، وينسحب تدريجيًا من المجال العام، وهو ما يخدم في النهاية قوى المال والنفوذ على حساب المشاركة والتمثيل الحقيقي.
نحن إذًا أمام اختبار حقيقي للدولة والمجتمع: إما أن تُدرك خطورة هذا التحول وتتحرك لتنظيم الفضاء الرقمي الانتخابي، أو تترك السياسة تُدار من خلف الشاشات، حيث لا صوت يعلو إلا لمن يدفع أكثر، ولا حقيقة تُرى إلا بقدر ما تسمح به الخوارزميات..!!

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية