الأسلحة المحرمة "أذابت" عظام عائلتي
الهباش لـ"الوفد" : لولا مصر لتهجرنا.. والانقسام الداخلي هدية مجانية للاحتلال
-الهباش يروي فصولاً من الدعم المصري ويؤكد: حروبها كانت من أجلنا
- مصر قدمت 60% من إغاثتها وهي الأمل والظهير للفلسطينيين
-الرأي العام الغربي قلب المعادلة و"منظمة التحرير" هي المخرج
- الاستيطان كله غير شرعي والذكاء الاصطناعي مزلق خطير
- حماس أدخلتها في ست حروب
أوقفنا الزمن لدقائق لنسجل شهادة مروعة عن أسلحة "تذيب العظم"، وتجربة شخصية فقد فيها أفراداً من عائلته في غزة. جاء لقاء "الوفد" مع الدكتور محمود صدقي الهباش – قاضي قضاة فلسطين ومستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الدينية، الرجل الذي يجمع بين حس القاضي، وثبات الوطني، ووجع الإنسان الذي لم يسلم من الحرب.
التقيناه على هامش الندوة الدولية للإفتاء، في فاصل سرقناه من جدول أعماله المكثف بين لقاءات مع كبار المسؤولين المصريين. في هذا الحوار الخاطف، ينتقل بنا الهباش من حرارة الذاكرة الشخصية إلي التحليل السياسي، مقدماً قراءة واقعية مشيدًا بالدور المصري الحاسم الذي يصفه بـ"حجر الزاوية" الذي منع التهجير، ويحذر من أن الانقسام الداخلي الذي قدم "خدمة مجانية" للاحتلال، ويرفض الاستيطان بكل أشكاله باعتباره قاتل السلام، شارحا معادلة الغرب في التغيير.
إلى حوار يمس الجرح والذاكرة، ويطرح الأسئلة المحرجة على الجميع: الفلسطيني والعربي والدولي.
س/ في العديد من المؤتمرات العربية والإقليمية والدولية تم التأكيد على رفض استخدام إسرائيل للذكاء الاصطناعي لاستهداف المدنيين في غزة. كيف تقيمون هذه التوصيات في ظل ما يعيشه أهل غزة؟
القضية الفلسطينية، بحكم مكانتها المقدسة والتاريخية في عمق الوجدان العربي والإسلامي، تبقى القضية الجامعة. أما بالنسبة لاستخدام إسرائيل للذكاء الاصطناعي في ارتكاب الجرائم، فهي تخترع كل يوم وسائل إجرامية جديدة من أسلحة محرمة دولياً، تقنيات مراقبة وتنصت، ومتفجرات لا يتصور العقل بشاعتها.
(ثم يصمت لحظات وهو يستجمع ذكريات مؤلمة ، وبصوت خافت يستكمل ) سأقول لكم شيئاً شخصياً.. لقد قصف منزلي في غزة. كان بداخله ما يقارب العشرين فرداً من عائلتي المقربة، بينهم أختي وعائلتها وابن عمي، الصاروخ الذي ضربنا كان من هذه الأسلحة المتطورة... التأثير كان مرعباً... لقد أذاب الأجساد. لم نستطع العثور على معظم الجثث، حتى العظام تبدو كما لو أنها تبخرت، تظهر فقط حفرة عميقة في الأرض وبقايا أشلاء بسيطة جدا.
هذه التقنيات التي كان من المفترض أن تخدم البشرية، تحول إلى أدوات لإنتاج الموت بأبشع الصور، استخدام الذكاء الاصطناعي لاستهداف عائلات بأكملها، أو لاختيار سلاح أكثر تدميراً، هو ذروة الإجرام.
هذه التقنيات التي كان من المفترض أن تخدم البشرية، تُحوّل إلى أدوات لإنتاج الموت بأبشع الصور. استخدام الذكاء الاصطناعي لاستهداف عائلات بأكملها، أو لاختيار سلاح أكثر تدميراً، هو ذروة الإجرام.
س: كيف يمكن مواجهة هذه الاستخدامات التكنولوجية العدوانية، علماً أن إمكانياتنا التقنية قد لا تكون بنفس المستوى؟
ج: يجب أن نسأل انفسنا السؤال الجوهري هو: لماذا لا نمتلك نحن هذه التقنيات؟ لماذا نبقى دائم في موقع المستهلك أو الضحية؟ يجب أن يكون هناك سعي جاد لأمتنا لامتلاك علوم العصر وتطويعها لخدمة أمنها وتطورها.
س: كيف تري دور وموقف مصر من القضية الفلسطينية..على مر العصور والزمان ؟
ج: مهما قيل عن موقف مصر، فهو قليل. منذ عام 1948، كل الحروب التي خاضتها مصر كانت من أجل فلسطين: 48، 56، 67، 73. قدمت مصر عشرات آلاف الشهداء والجرحى وخسرت خسائر فادحة كلها من أجل فلسطين.
و دور مصري محوري في الأزمة الأخيرة، لولا الموقف "الصارم والحاسم" الذي اتخذته مصر والرئيس السيسي في منع التهجير، لنجحت إسرائيل في تهجير الفلسطينيين.
وبالارقام 60% من المساعدات الإنسانية التي تدخل إلى قطاع غزة مصدرها مصر - من الدولة والشعب المصري والأزهر - ٦٠ % من مصر واقصد هنا ان مصر ليس مجرد بوابة لمرور هذه المساعدات بل هي التي قدمتها.
مصر أيضاً هي التي قادت جهود وقف إطلاق النار. ما تقوم به مصر شيء يفوق مستوى التعبير. نحن كفلسطينيين نرى في مصر "الأمل"، لأن فلسطين لن تضيع ما دامت مصر تقف معها.
س/ ننتقل الى المستوي الاقليمي ..هناك من يري فجوة بين الخطاب العربي الرسمي المؤيد لفلسطين، وبين التحرك الفعلي على الأرض؟ هل يشعر الفلسطينيون بهذا الدعم؟
نحن نقدر كل دعم، كبيراً كان أم صغيراً، من أي دولة أو شعب عربي..كل يقدم بقدر ما يستطيع، نحن لا نطالب أحداً بأن يحارب نيابة عنا، شعبنا صامد وقادر على المقاومة، كل ما نطلبه هو أن يكون العالم العربي ظهيراً وسنداً لنا، بالدعم السياسي والإغاثي والإعلامي. الفلسطيني قادر على البقاء، فالأرض التي ينمو فيها الزعتر والزيتون لا يمكن أن تموت بسهولة، صمودنا هو رسالتنا للعالم.
س/ ما تعليقكم حول المصادقة على إقامة ١٩ مستوطنة جديدة في الضفة؟
مشكلتنا ليست مع 19 مستوطنة جديدة، بل مع كيان الاستيطان كله. كل المستوطنات الإسرائيلية، القديمة والجديدة، الرسمية منها أو "العشوائية"، على أراضٍ فلسطينية محتلة منذ عام 1967 هي غير شرعية وغير قانونية بموجب القانون الدولي، ويجب إزالتها. الاستيطان ليس مجرد عقبات عينية، بل هو فلسفة احتلال واستعمار تهدف إلى تقويض إمكانية قيام دولة فلسطينية.
الحقيقة البسيطة هيولا يمكن للسلام أن يتحقق أو حتى يتخيل في ظل استمرار التوسع الاستيطاني، فهو يقتل حل الدولتين من جذوره.
س / في ظل مشاركتكم في الندوة الدولية للإفتاء التي استضافتها مصر. من وجهة نظركم الشرعية والقانونية، ما أبرز المخاطر التي يمثلها الاعتماد غير المنضبط على أدوات الذكاء الاصطناعي في مجال الإفتاء تحديداً؟
الذكاء الاصطناعي، كما هو معلوم، أداة ذات حدين، في ميادين مثل الزراعة أو الصناعة، يمكن أن تكون فوائده عظيمة، لكن عندما ندخل إلى الميادين الإنسانية والوجدانية، الأمور تحتاج إلى حذر شديد.
لا توجد آلة قادرة على محاكاة وجدان الإنسان أو فهم تعقيدات عقيدته وظروفه النفسية والاجتماعية الكاملة. لذلك، استخدام هذه الأدوات في مجال الفتوى، دون ضوابط حازمة، هو "باب من أبواب الوقوع في الخطأ".
س/ما هي هذه الضوابط؟ أين بالضبط يقع الخطر؟
الخطر الأكبر هو توهم أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن "يحل محل المفتي". يمكن استخدامه كأداة مساعدة في جمع المعلومات أو تصنيف الأسئلة، لكن أن يسأل الإنسان ويجيب الآلة مباشرة، فهذا "مزلق خطير جداً".
الفتوى ليست مجرد معلومات جامدة؛ جزء جوهري منها هو "إدراك مقتضى الحال"، فهم حالة المستفتي الخاصة، ووزن الظروف المحيطة، وهذا يحتاج إلى بصيرة وتدقيق وقلب يعي، أمور لا تملكها الآلة.
الفتوى قد تتجاوز الجانب العقلي لتدخل في الجانب الوجداني والروحي، وهذا بعيد عن قدرة أي ذكاء اصطناعي.
س/ كيف تقرأ الموقف الأمريكي والأوروبي المزدوج من القضية الفلسطينية، خاصة مع استمرار العنف رغم الدعوات لوقف إطلاق النار؟
هناك تحول جيوسياسي واضح، خاصة في الموقف الأوروبي.،لقد بدأت غالبية الدول الأوروبية تتخذ مواقف أكثر تقدماً بعد اقتناعها بأن السلام المستدام مرتبط بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني. هذا التحول مدفوع بعاملين: أولاً، شعور أخلاقي متزايد بالمسؤولية التاريخية للدول الأوروبية في نشأة القضية. ثانياً تأثير الرأي العام الغربي الذي لم يعد يقبل ازدواجية المعايير، خاصة بعد المشاهد المروعة للعدوان على غزة والنشاط الدبلوماسي المكثف.
مع ذلك، يبقى التحدي الحقيقي هو تحويل هذه المواقف السياسية إلى ضغط فعلي لوقف العدوان والاستيطان على الأرض، لأن السلام لا يُبنى بالخطابات وحدها.
س/ حول الانقسام الداخلي الفلسطيني.. ما هي رؤيتكم لتوحيد الجبهة الداخلية وإعادة البناء ؟
منذ ثمانية عشر عاماً، تسببت حماس - مع الأسف الشديد - بانقسام عميق داخل الجسد الفلسطيني، بعد أن قامت بانقلاب عام 2007 على السلطة الفلسطينية واختطفت قطاع غزة تحت حكم عسكري تسلطي، ثم جرت القطاع إلى ست حروب مهلكة كان آخرها الحرب الأخيرة التي استمرت عامين كاملين. وهذا الانقسام، بدون أدنى شك، أثر سلباً على القضية الفلسطينية وشكل خدمة – بل خدمة مجانية – للاحتلال الإسرائيلي الذي كان دائماً يسعى إلى تمزيق الجسد الفلسطيني. لا يوجد أمامنا خيار إلا أن نعيد توحيد الكل الفلسطيني تحت مظلة واحدة، هي مظلة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي منظمة التحرير التي يعترف بها العالم ويعترف بها العرب والمسلمون ويعترف بها الشعب الفلسطيني، حتى بما في ذلك حركة حماس. ولذلك، الحل من وجهة نظرنا ومن وجهة نظر كل المجموعة العربية والإسلامية، هو أن تسلم حركة حماس قطاع غزة بشكل كامل إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وتنخرط كل الفصائل الفلسطينية في عملية سياسية ووطنية لاستعادة التوازن الداخلي والخارجي، ولإعادة وضع القضية الفلسطينية على السكة الصحيحة وعلى الطريق الصحيح، من أجل أن نتصدى جميعاً للتحديات التي يفرضها علينا واقع الاحتلال الإسرائيلي.