قضية ورأى
قليل من «الكهن»
فجأة، اشتعلت «السوشيال ميديا» بحادثة فى بلدى المنوفية، وهى حوادث مكررة لرجل اتهم بقتل زوجته.
كاد الأمر أن يمر مرور ككل حادث منذ بداية البشرية.. قاتل ومقتول.. فما الجديد؟
الجديد أن حوارات مع أسرة المتهم، نقلت محاكمة «السوشيال» من المتهم إلى محاكمة ثقافة اللؤم و«الكهن»، وهى ثقافة غالبة فى الريف لمن عاش فيه مثلى، وانتقلت إلى المدن أيضًا، وأصبحنا نراها فى كل شىء من الفلاحة إلى السياسة.
والمنوفية هى القلب التاريخى للريف المصرى، وأكثر من تمتع بالخصوصية، وأكثر من حافظ على بقايا الإرث المصرى العتيد، لأنها معزولة طبيعيًا بفرعى النيل من الشرق والغرب والجنوب.
وحقيقة أن اللؤم أو «الكهن»، لا يرتبط بالمنوفية فقط.. بل يرتبط ارتباط مصر بالدولة المركزية قبل 5 آلاف عام وأكثر.. وبينما كان أجدادنا المصريون يزرعون القمح والشعير والبرسيم، فإنهم كانوا بلا شك يحصدون معه «الكهن»، لأن الدولة ستطلب الضريبة، والضريبة تعنى خسارة، والخسارة تحتاج إلى مكر وخديعة لتفاديها وعدم الدفع.
شعب يعيش على الزراعة، ودولة تتحكم فى المياه، وتجبى الضرائب، وتحدد من يبقى ومن ينتهى به الحال طريدًا فى صحراء مصر القاحلة الواسعة.. فكان قليل من الكهن يكفى للنجاة من الحكومة.
وبينما فى الصعيد، كانت هناك فرصة للهروب فى الجبال للاختباء والعودة لاحقًا إلى القرية، وبينما فى المدن الساحلية هناك فرص أخرى للتجارة والصيد، كانت الدلتا عمومًا من المنوفية والشرقية والغربية والبحيرة والمنصورة، لا تملك فرصًا بديلة.
فإذا غضبت عليك الحكومة، فهذا يعنى الجوع والعطش والموت.
طوال الآلاف الخمسة، مرت على المصريين حكومات وطنية وأخرى أجنبية تابعة للغزاة، ومرت معها عقود من العدل وقرون مضاعفة من الظلم.. والواقع لم يتغير كثيرا.
وهكذا ظهر «لؤم الفلاحين»، ذلك المصطلح الشعبى التاريخى، الذى يعبر عن الدهاء والمكر الذى كان يلجأ إليه الفلاح المصرى للحفاظ على حقوقه والهروب من ظلم السلطة والاستغلال.
فى فترة تاريخية مثل حكم محمد على، كان الباشا هو التاجر الوحيد والصانع الوحيد، وكان التجنيد الإجبارى.. فكان مكر الفلاح هو وسيلة النجاة، تارة بالتظاهر بالفقر وتارة بالتظاهر بالمرض أو خداع السلطات للتهرب من الضرائب أو العمل القسرى، لدرجة أن يفقأ أحدهم عينه ويقطع أصبعه أو يثقب أذنه للتهرب من «الجهادية» التى كانت تعنى عبودية مطلقة.
أعرف حكاية متوارثة عن فلاح كفيف، طلبوه ليدفع المال.. وعندما ذهبوا إلى منزله، دخل «المندرة» ووضع قطعة ذهبية داخل فمه، حتى إذا ذهب معهم وضربوه يصبح لديه حلان: إذا اشتد الضرب سيدفع القطعة الذهبية، وإذا كان ضربًا خفيفًا وإهانة فسيحتفظ بها داخل فمه.
وعندما وصل إلى دوار العمدة، بدأت حفلة التعذيب والإهانة، فظل صامتًا وهم يضربونه بالعصا ويهينونه، ويسألونه عن «المال» وهو صامت لا يرد.
فأمر العمدة بتركه لأنه «راجل كفيف وفقير».. ففكوا قيده.. ومن غيظ الجلاد أن لكمه فى وجهه بقوة، فخرجت القطعة الذهبية من فمه، ودفع المال وقبض «علقة ساخنة».
كان «لؤم الفلاحين» تعبيرًا عن الذكاء الريفى والمكر للنجاة من الظلم فى ظروف قاسية، لكنه تحول تدريجيًا إلى ثقافة مع انحسار ظلم الدولة، ليصبح طريقة للعيش فى المجتمع.
طريقة فجة لتزييف الحقائق، واغتصاب الحقوق، وأذى الجار، وأكل المال بالباطل، والتهرب من الالتزامات، والانتصار على الآخر بأى طريقة، ثم الادعاء بالمظلومية.
فى ثقافات قريبة، يروج البعض إلى توافق «اللؤم» مع «التقية».. والأخيرة هى مصطلح شيعى يشير إلى ممارسة إخفاء الإيمان الحقيقى أو إخفاء الانتماء العقائدى أو التصرف بطريقة تتعارض ظاهريًا مع المعتقد الباطنى، وذلك خوفًا من الضرر أو الإكراه أو الأذى الذى قد يلحق بالشخص أو جماعته.
لكن الترويج غير حقيقى.. فالتقية تتحدث عن اخفاء الإيمان وليست الشهادة الزور، أو التحايل على المجتمع والبسطاء وأصحاب النوايا الحسنة.
كما أن المداهنة الواردة فى سورة القلم «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ»، بعيدة هى الأخرى، لأنها تعنى المصانعة والتليين ـ من استخدام الدهن اللزج ـ ومنها دهن المكياج لتغطية عيوب الوجه أو تجميله.. وهى لا تعنى الإساءة للآخرين إطلاقًا كما فى «الكهن».
وهكذا التقية شىء، والمداهنة شىء.. والكهن شىء آخر، اكتوى بناره كثيرون.