مُبِين
بِسْمِ اللَّهِ
هناك لحظات قليلة فى الحياة يشعر فيها المرء أنّ الكلمات ليست مجرد أداة للقول، بل هى جسرٌ يعبر به نحو عالمٍ أوسع، ومسئولية أثقل مما يبدو. واليوم، وأنا أكتب للمرة الأولى فى هذا العمود الذى طالما كان نافذةً مشرقة على الفكر والجمال، أجدنى أقف على بابه بما يشبه الرهبة الهادئة؛ رهبة البدايات التى تحمل فى طيّاتها وعداً خفياً، وحنيناً إلى كل ما يمكن للكلمة أن تصنعه فى قلب قارئٍ لا أعرفه، لكنه يسكن معى فى المساحة نفسها من السطور.
وقبل أن أبدأ خطوتى الأولى نحوه، لا يجوز لى أن أتابع دون أن أقدم احترامى وتقديرى لأصحاب الفضل الحقيقى فى تشكيل ملامح هذا العمود وصناعة صوته المميز؛ أستاذى حازم هاشم ـ حرر الله روحه ـ ومقاله «مكلمخانة» الذى كان ومضة متفردة فى الصحافة الثقافية المصرية والعربية، استطاع فيها حازم هاشم أن يمنح الكلمة حضورًا حرًا. فلم يكن «مكلمخانة» مجرد عمود رأى، بل مرآة كاشفة لما يمر عليه الآخرون عبورًا.
وأستاذى عماد الغزالى الذى منح المقال تحليقه الحر فى فضاء الثقافة من خلال «صدى»، والذى لم يكن مجرد تحليل أو خبر، بل قراءة صادقة تلتقط خيوط الحدث وأصداءه، فيعيد ترتيب المشهد الثقافى بوعى متجدد، فترك «صدى» أثرًا مستدامًا فى الوسط الثقافى، وأصبح نموذجًا للكتابة التى تجمع بين العمق والإحساس.
وأستاذتى نعمة عز الدين التى أبقت للعمود روحه الهادئة، وكتبت فيه كما تُكتب القصيدة حين تُقرأ بصوتٍ خافت لكنها تبقى طويلاً فى القلب؛ «ونس الدكة» كان مساحة آمنة للإنسانية والدفء الثقافى، إذ استطاعت نعمة عز الدين أن تحوّل كل مقال إلى جلسة ونس مع القارئ حين تفلت الكلمات منها بخفة؛ لتكشف عن تفاصيل الحياة اليومية والجمال الكامن فى أبسط لحظاتها. «ونس الدكة» لم يكن مجرد نص صحفى، بل تجربة قرائية تلامس الروح وتعيد فى الإنسان ترتيب الأولويات، فقد أثبتت نعمة عز الدين أن المقال المبدع ليس فقط تحليلًا أو رأيًا، بل نافذة تأخذ القارئ إلى عالم أرحب من المتعة الحياتية.
لقد كتب هؤلاء بكل محبة ومسئولية، وتركوا لنا ما يشبه الأثر الذى يُهتدى به. والآن، وقد آل إلىّ شرف حمل القلم فى هذا المكان، أدرك أن المهمة ليست سهلة، وأنّ الحفاظ على قيمة هذا العمود ليس وعداً يُقال، بل هو التزام يختبر الكاتب أمام نفسه قبل أن يختبره القارئ، أعدُ القارئ هنا فى «مُبِين» بكل ما للكلمة من وزن، أن أكتب كما ينبغى للكلمة أن تُكتب؛ بحيادٍ كامل، بعيداً عن كل هوى للنفس، ودون انحياز سوى للحقيقة، وللثقافة التى توسّع الرؤية، وتهذّب الذائقة، وتخلق جسوراً بين العقول.
إننى أدخل هذا العمود كما يدخل المرء بيت أساتذته المحبّبن إليه؛ بخطوات هادئة، واحترامٍ شديد للذين سكنوه قبلى، ورغبة خالصة فى أن أضيف صوتى دون أن أُحدث ضجيجاً، وأن أترك أثراً دون أن أزاحم أثراً آخر؛ فإن نجحتُ، فذلك فضلُ من سبقنى ومن يقرؤنى، وإن تعثّرتُ، فليغفر لى القارئ، لأننى ما أردتُ إلا أن أكتب بما يمليه الضمير، وما يليق بهذا المكان من نور.