قضية ورأى
الجوع والانتخابات
مع بعض الفوارق، تمثل بعض دوائر انتخابات مجلس النواب التى تجرى حاليًا، جانبًا عمليًا للاختيار المستمر بين الخبز والحرية.
فمعضلة «الخبز أم الحرية»، من أقدم وأعمق الإشكاليات الفلسفية والسياسية التى تواجه المجتمعات، إذ تضع قيمة تلبية الحاجات الأساسية المادية من الخبز والأمن والمأوى فى كفة، وقيمة الحقوق والحريات المدنية والسياسية فى كفة أخرى.
مرشحون يغدقون على الخدمات العامة والخاصة والدعاية والتوكيلات وشراء الأصوات، وآخرون يطرحون أنفسهم بدائل سياسية لكنهم لا يملكون المال.
إنها منافسة غير عادلة، لكن هذا هو الواقع.
أما الناخبون فبعضهم جائع، وبعضهم يتربح، وبعضهم مقاطع، وبعضهم مثقف، وبعضهم مؤدلج، وبعضهم خلايا إخوانية نائمة، وبعضهم يفضل الجلوس فى المنزل، وبعضهم يفضل السوشيال ميديا ولاوزن له فى الشارع، وبعضهم فقد الثقة فى العملية الانتخابية برمتها منذ زمن طويل ولم يشترك فى أى انتخابات.
المشكلة دائمًا أن العملة السيئة تطرد العملة الجيدة، وتتربع مكانها، وتفرض نفسها.
لذلك، لاقت توجيهات الرئيس السيسى بـ«التدقيق التام»، حتى يأتى أعضاء مجلس النواب ممثلين فعليين عن شعب مصر تحت قبة البرلمان، ارتياحًا كبيرًا.
وليس من الإنصاف القول بأن توجيهات الرئيس لم يكن لها أثر على الأرض.. بل أحدثت تغييرًا كبيرًا، وقد شاهدناه فى نتائج إعادة الدوائر الملغاة نتائجها.
فبعض الناجحين، سقطوا بلا رجعة، وبعضهم دخل الإعادة، مما يكشف أن التغيير ليس ببعيد.. فقط يحتاج إلى إرادة من السلطة والناخبين، ومناخ يهيئ له الأفضل.
لكن الجوع يُفشل الاختيارات السياسية والاجتماعية..
فالجوع والعوز الشديد يمثلان عاملًا رئيسيًا لـ«فشل» أو «تشوه» الاختيارات السياسية والاجتماعية.
وفى حالة الجوع والأمن المفقود، يتحول دافع البقاء إلى الدافع الأسمى.
فإذا كان الناخب جائعًا وفى الوقت نفسه خائفًا من مرشح الدولة، فلا لوم عليه فى اختياراته.. بمنطق «مش حيبقى موت وخراب ديار».
ولا يمكن للإنسان الجائع أو المهدد فى أمنه أن يمارس حريته السياسية بفعالية. فالشخص الذى يقضى وقته فى البحث عن قوت يومه يفتقر إلى الوقت والجهد والطاقة للمشاركة فى الحياة السياسية أو التفكير النقدى أو المطالبة بالحقوق.
هذا هو الواقع كى لا نلوم جانبًا من الناخبين البسطاء الذين يبحثون عن 100 جنيه ثمنًا لصوتهم.. فاللوم على من يملك قوته لكنه يرفض المشاركة فى الانتخابات.
وفقًا لهرم ماسلو للحاجات، تقع الحاجات الفسيولوجية والأمان فى قاعدة الهرم.. فلا يمكن للعقل أن ينخرط بفعالية فى «تحقيق الذات» أو «المشاركة السياسية المعقدة» قبل تلبية تلك الأساسيات.
والهرم الخماسى، تبدأ قاعدته من الأساسيات الفسيولوجية، والأمان، ثم الحاجات الاجتماعية، ثم التقدير واحترام الذات، وصولًا إلى قمة الهرم وهى تحقيق الذات.
ليس جميعنا فى قمة الهرم، والمؤكد أن جميعنا لسنا فى القاع.. لكننا جميعًا سندفع ثمن كل اختيار.
فأحسنوا الاختيار.