سجون بلا أبواب… ومفاتيح ضائعة
ليست أخطر السجون تلك التي تُغلق عليها الأقفال الثقيلة، ولا تلك التي تحرسها كلابٌ مدرَّبة وأسوارٌ عالية. فالسجون الحقيقية لا تُبنى من حجارة، ولا تُضاء بمصابيح باهتة فوق رؤوس المسجونين. السجون الأخطر تُبنى داخل العقل، تُشيَّد غرفةً بعد أخرى، حتى يصبح الإنسان أسيرًا لشيءٍ لم يلمسه بيده يومًا، لكنه يحمله في داخله أينما ذهب.
نحن اليوم نعيش زمنًا غريبًا؛ زمنًا تتحرك فيه الأقفال من الخارج إلى الداخل، وتتحول فيه العبودية من يد السجّان إلى قلب السجين.
-سجن الخوف---
كان الإنسان قادرًا على مواجهة العالم بأكمله، لو لم يسكن الخوف صدره.
الخوف من الفشل، الخوف من المستقبل، الخوف من ضياع لقمة العيش، الخوف من كلمة تُقال عنه في لحظة غضب. ومع الوقت، يصبح الخوف مديرًا لحياته؛ يقرّر عنه، ويمنعه، ويدفعه إلى أن يعيش نصف حياة، ويؤدي نصف دور، ويحقق نصف حلم.
الخوف في مجتمعاتنا ليس مجرد شعور، بل مؤسّسة كاملة لها قوانينها وتقاليدها وأكاذيبها. كلنا نعرفها، وكلنا تربّينا في حجرها.
--سجن الرأي العام ---
وهناك سجنٌ أشدُّ قسوة وظلمة من كل ما سبق:
سجن "ماذا سيقولون عني؟"
هذا السجن لا يديره ضابط ولا قانون.
يديره مجتمعٌ كامل يراقبك بصمت، ويحاسبك بنظرة، ويضعك تحت سلطة أعينٍ لا تنام.
لا أحد يرى جدرانه، لكنه يتحكم في أصغر تفاصيل حياتك:
--لماذا لم تترك الوظيفة؟
-- لماذا لم تتزوج؟
-- لماذا تطلّقت؟
--لماذا تكتب؟
-- لماذا تصمت؟
--لماذا تعيش بالطريقة التي تريدها؟
-- أسئلة لا تُطرح صراحة، لكنها تُسمَع في كل بيت وزقاق ومجلس.
ومع الوقت، تبدأ في تقييد نفسك بنفسك؛
تسجن حريتك، وتكمّم صوتك، وتختار حياة لا تُشبهك لأن “الناس قالت”.
--السجين والسجّان… في شخص واحد --
المفارقة المؤلمة أننا نحن السجين ونحن السجّان.
نحن من نبني جدران الخوف، ونحفر أرض الرأي العام بأيدينا، ثم نجلس في زاوية معتمة نلوم العالم.
نعلّق المفاتيح على الحائط، ونبكي كأننا فقدنا طريق الخروج.
والحقيقة البسيطة التي نخشى الاعتراف بها هي:
كان المفتاح معنا طوال الوقت.
لكننا اعتدنا العتمة حتى ظننا أن الضوء مجرد وهم.
--الحرية تبدأ من الداخل---
الحرية ليست صراخًا في الشارع، ولا قرارًا من حاكم، ولا وثيقة تُوقَّع.
الحرية لحظة صدق مع الذات:
أن تعرف من أنت، وأن تختار ما تريد، وأن تتوقف عن الحياة كظلٍّ للآخرين.
حين تتحرر من الداخل،
لن يخيفك رأي أحد،
ولن يحجزك خوفٌ وُلد معك أو رُبّيت عليه.
--مجتمع يبحث عن الباب----
نحن اليوم نعيش أزمة وعي، لا أزمة قوانين.
مشكلتنا ليست غياب الحرية… بل الخوف من الحرية.
الخوف من أن نقول: "لا".
الخوف من أن نختلف.
الخوف من أن نكون نحن.
ولو امتلك كل فرد شجاعته الداخلية،
لانفتح الباب،
وما تلاشت تلك السجون كما وُلدت: بصمت.
--الخلاصة--
لسنا بحاجة إلى ثورة تُسقط الجدران،
بل إلى ثورة تُسقط الخوف.
ولسنا بحاجة إلى مجتمع جديد،
بل إلى عقول جديدة تدرك أن الحرية ليست هدية،
بل قرار داخلي…
ومفتاحٌ في الجيب
لم نجرؤ على التقاطه بعد...!!
محمد سعد عبد اللطيف،كاتب
وباحث في الجيوسياسة والصراعات الدولية..