التربية الرقمية.. هل نحن نعد أبناءنا لعالم الإنترنت؟
المشهد الأول: صباح عادى فى بيت عادى
الساعة السابعة صباحاً. تستيقظ سارة البالغة من العمر عشر سنوات، لا على صوت أمها، بل على رنين إشعار من هاتفها. تفتح عينيها، وقبل أن تقول «صباح الخير»، تمد يدها الصغيرة نحو الشاشة المضيئة.
فى الغرفة المجاورة، يجلس أخوها أحمد -خمسة عشر عاماً- وعيناه محدقتان فى فيديو تلو الآخر. لا يعرف كم مضى من الوقت، فالخوارزمية تعرف بالضبط ما يحب، وتقدم له جرعة تلو الأخرى، كأنها تعرفه أكثر مما يعرف نفسه.
هذا ليس استثناءً. هذا واقع ملايين البيوت اليوم.
لم تعد التربية كما كانت.. كان جدى يقول: «ربّينا على ركبة الوالدين وخشبة المعلم». كان الأمر واضحاً: البيت يعلم القيم، والمدرسة تعلم العلم، والشارع يعلم الحياة. لكن اليوم؟ اليوم دخل طرف رابع على الخط، طرف لم يطرق الباب، بل دخل من جيوبنا وحقائبنا وأيدى أطفالنا. دخل بلا استئذان، وجلس فى كل غرفة، بل فى كل لحظة صمت.
الإنترنت.
ذلك المعلم الذى لا ينام، ولا يتعب، ولا يمل. يعلمهم كل شيء: كيف يفكرون، كيف يلبسون، ماذا يحبون، بل ومن يكونون. ولا أحد منا يسأل: ما الذى يعلمه لهم بالضبط؟
الحقيقة المرة: نحن نسلمهم المفتاح ولا ندلهم على الباب.. تخيل معي: أنك تعطى طفلك مفاتيح سيارة، ثم تقول له: «تفضل، اذهب أينما تريد»، دون أن تعلمه كيف يقود، أو أين الطرق الآمنة، أو متى يتوقف. هذا بالضبط ما نفعله حين نعطيهم هاتفاً ذكياً دون تربية رقمية. نعم، الإنترنت مليء بالمعرفة، لكنه أيضاً مليء بالمتاهات. فيه جواهر، وفيه أوحال. فيه من يبنى العقول، وفيه من يهدمها. والطفل، بعينيه البريئتين وعقله الفضولي، لا يملك البوصلة التى تدله على الطريق.
ليست المشكلة فى الإنترنت... بل فينا.. دعنى أكن صريحاً: الإنترنت ليس الشيطان. التكنولوجيا ليست العدو. المشكلة أننا نحن الكبار، الذين نفترض أننا نملك الحكمة، لا نعرف كيف نتعامل معه.
نحن الذين نجلس على مائدة الطعام ونحدق فى هواتفنا. نحن الذين نقول لأبنائنا «اتركوا الهاتف»، ثم نمسك به أمامهم كل دقيقة. نحن الذين ننتقد إدمانهم، بينما نحن مدمنون أيضاً، لكننا نسميه «عمل» أو «متابعة أخبار». كيف سيصدقنا أبناؤنا حين نكون أول من يكسر القاعدة؟
التربية الرقمية: ليست منعاً... بل صحبة.. التربية الرقمية لا تعنى أن تصادر الهاتف كلما رأيته فى يد ابنك. ولا أن تضع كلمة سر على كل تطبيق. ولا أن تتحول إلى رقيب يتجسس على كل رسالة. التربية الرقمية تعنى أن تكون هناك.
أن تجلس بجانبه، لا أمامه حين يشاهد ابنك فيديو، اجلس بجانبه. لا لتراقبه، بل لتشاركه. اسأله: «ما رأيك فيما رأيت؟» «هل تعتقد أن هذا حقيقي؟» «كيف شعرت بعد مشاهدة هذا؟» علمه أن يسأل، لا أن يبتلع كل شيء كما هو.
أن تعلمه أن الإنترنت واقع، وليس لعبة الكلمة التى يكتبها هناك، تؤذى هنا. الصورة التى ينشرها اليوم، قد تطارده غداً. الصديق الذى يتحدث إليه عبر الشاشة، قد يكون ذئباً يختبئ فى جلد خروف.
لا نريد أن نزرع الخوف فى قلوبهم، بل الوعى. لا نريدهم أن يهربوا من الإنترنت، بل أن يمشوا فيه بعيون مفتوحة.
أن تغرس فيه ثقافة «التحقق»، لا «التصديق الأعمى»
فى زمن الأخبار المزيفة والمعلومات المضللة، أصبح التحقق مهارة بقاء.
علم ابنك أن يسأل:
من كتب هذا؟
هل هذا المصدر موثوق؟
هل هناك دليل على ما يُقال؟
علمه ألا يشارك كل ما يقرأ، وألا يصدق كل ما يرى.
الإدمان: حين يصبح الإنترنت سيداً لا خادماً
لنتوقف قليلاً عند هذه الكلمة: الإدمان. نعم، الإدمان الرقمى حقيقي، وليس مجرد مبالغة من الآباء القلقين. حين يصبح الطفل عصبياً إن لم يمسك هاتفه. حين يفقد القدرة على الجلوس خمس دقائق بلا شاشة. حين تصبح الإشعارات أهم من الحديث مع من حوله. حين ينام والهاتف آخر ما يراه، ويستيقظ وهو أول ما يبحث عنه. هذا ليس حباً للتكنولوجيا. هذا استعباد.
كيف وصلنا إلى هنا؟
الشركات التقنية الكبرى توظف أذكى العقول لتصميم تطبيقات تسبب الإدمان. نعم، تقصداً. الإشعار الأحمر الصغير، الصوت عند وصول رسالة، التمرير اللانهائي، المقاطع القصيرة المتتالية... كلها مصممة لشيء واحد: أن تبقى عالقاً. وأطفالنا، بعقولهم التى ما زالت تتشكل، هم الفريسة الأسهل.
ماذا نفعل؟
لا نستطيع أن نحارب الخوارزميات، لكننا نستطيع أن نبنى عادات أقوى منها:
أوقات بلا شاشات ساعة قبل النوم، لا شاشات. وقت الطعام، لا هواتف. يوم فى الأسبوع، نتحرر تماماً من العالم الرقمى.
الفراغ الملل ليس عدواً، بل صديق. فمن الملل يولد الإبداع. لكن حين نملأ كل لحظة صمت بشاشة، نقتل الخيال قبل أن يولد.
القدوة، ثم القدوة، ثم القدوة إن أردت أن يترك ابنك الهاتف، ابدأ أنت. إن أردت أن يقرأ، اقرأ أمامه. إن أردت أن يتحدث، تحدث معه.
الأطفال لا يسمعون نصائحنا. يشاهدون أفعالنا.
تعليمهم المسئولية الرقمية
المسئولية الرقمية تبدأ صغيرة، من أبسط الأشياء:
لا تنشر صور الآخرين دون إذنهم. حتى لو كانوا أصدقاء.
فكر قبل أن تعلق. الكلمة المكتوبة تبقى، والجرح الذى تتركه قد لا يندمل.
احترم خصوصيتك وخصوصية غيرك. ليس كل شيء يجب أن يُنشر.
كن لطيفاً خلف الشاشة كما أنت أمامها. الشجاعة الحقيقية ليست فى الإساءة للآخرين متخفياً، بل فى الوقوف ضد الإساءة حتى لو كنت وحيداً.
حين يخطئون... ماذا نفعل؟
سيخطئون. حتماً سيخطئون. قد ينشر ابنك شيئاً غير لائق. قد تقع ابنتك فى فخ محتال. قد يدخلون إلى مواقع ينبغى ألا يروها. وحين يحدث ذلك، لا تنفجر غضباً. لا تعاقب بلا حوار. لا تجعلهم يخافون من الاعتراف لك. اجلس معهم. اسألهم: «ماذا حدث؟» «كيف شعرت؟» «ماذا تعلمت؟» اجعل من الخطأ فرصة للتعلم، لا لزرع الخوف. لأنهم إن خافوا منك، سيخفون عنك. وحين يخفون، تضيع فرصتك فى حمايتهم.
نحو جيل رقمى واعٍ، لا ضائع
نحن لا نحارب الإنترنت. نحن نعلم أبناءنا كيف يعيشون فيه دون أن يذوبوا. نريد جيلاً:
يستخدم التكنولوجيا، ولا تستخدمه.
يفكر قبل أن ينقر.
يعرف أن قيمته ليست فى عدد الإعجابات.
يفهم أن الحياة الحقيقية أعمق بكثير من الحياة على الشاشة.
نريدهم أن يكونوا سادة التكنولوجيا، لا عبيداً لها.
فى النهاية، لم يعد السؤال: كم ساعة يقضى ابنى على الإنترنت؟ بل أصبح: من الذى يربى ابنى... أنا أم الإنترنت؟ لأن الإنترنت سيكون هناك، سواء أردنا أم لا. لكن الفرق بين طفل ضائع فى المتاهة، وطفل يمشى بثقة فى طريقه... هو أنت. وجودك. حوارك. صحبتك. وعيك.
فالتربية فى عصرنا هذا ليست أن نُبعد أبناءنا عن الشاشات، بل أن نعلّمهم كيف يضيئون بها طريقهم... دون أن يحترقوا بنورها.
والآن، أخبرني: متى آخر مرة جلست مع ابنك، وتحدثت معه حقاً، دون أن يكون الهاتف بينكما؟