يدفعون ثمن أخطاء غيرهم بلا ذنب
حكايات من دفتر أحوال أبناء الملاجئ
فتاة يتيمة: حصلت على ليسانس آداب ومن حقى أن أعيش حياة طبيعية
أحمد: بدأت من دار رعاية أحداث.. وأتقبل المجتمع كما هو لكنه لا يتقبلنى كما أنا
استشارى علاقات أسرية: الرضا بالواقع والثقة بالنفس أهم سلاح لأبناء الملاجئ فى مواجهة الأفكار العدائية بالمجتمع
خبيرة قانونية تقترح تقديم أكواد خاصة لخريجى الملاجئ للتعامل الحكومى بعيدًا عن الروتين
منذ نعومة أظفارها، تربّت فى ملجأ صغير آمن، تعلمت أن الحياة ليست دائمًا كما تتمنى، تؤمن أن الطموح والإصرار هما الطريق الوحيد للخروج من دائرة الصعوبات، كان الملجأ بالنسبة لها أكثر من مأوى، كان مدرسة للحياة، تعلمت فيه الاعتماد على نفسها، ومواجهة كل تحدياتها بثقة وهدوء، رغم الفقد والألم الذى عاشت فيه منذ الطفولة.
كبرت الفتاة التى أخفت اسمها حفاظًا على سمعتها، وهى تحمل حلمًا كبيرًا فى قلبها، وقالت إنها أصرت على تحقيق ذاتها، وأن يكون لها مستقبل مستقل قادر على تحدى كل القيود، ومن هنا، اجتهدت فى دراستها حتى حصلت على ليسانس آداب، وأثبتت للجميع أنها قادرة على تحقيق ما تريده مهما كانت الظروف.
حكاية حب فى الجامعة
وفى الجامعة، وبين الصفوف والمكتبات، التقت بزميل لها لم يكن مجرد صديق عابر، بل كان شريكًا فى رحلة المشاعر والاكتشافات، الحب بينهما كان مختلفًا، حبًا ناضجًا، قويًا، مشبعًا بالإعجاب والاحترام، لكن الحياة لم تكن سهلة كما تمنيا.
واجهت الفتاة الجامعية رفضًا صارمًا من أهل الشاب، الذين لم يستطيعوا تجاوز فكرة أنها نشأت فى ملجأ، وأن ماضيها الاجتماعى مختلف عما يتوقعونه لابنهم، كان الألم شديدًا، فقد شعرت أن العالم كله يحاول أن يسلبها حقها فى الحب والزواج، رغم كل ما حققته من إنجازات وطموحات.
وفى لحظة صمت عميق، قالت كلماتها بصوت هادئ لكنه حاد المعنى «هو مش من حقى أحب وأتَحب وأتجوز؟»، لتكشف عن حزنها وإصرارها فى آن واحد، كانت كلماتها ليست مجرد سؤال، بل صرخة عن حقها فى أن تختار من تحب، وأن تُحترم كإنسانة ناضجة، قادرة على اتخاذ قرارها دون وصاية أو قيود.
ورغم الحب الكبير بينهما، قررت الفتاة أن تتخذ خطوة صعبة لكنها ناضجة، ورفضت الإفصاح عن اسمها أو أى تفاصيل عن حياتها الشخصية، حفاظًا على مستقبلها، وعلى احترام اختياراتها، متجنبة أى تعقيدات قد تهدد حلمها فى الاستقرار والحياة المستقلة.
مع كل خطوة تخطوها، كانت تتذكر دروس الحياة التى تعلمتها فى الملجأ أن لا شىء يُعطى بسهولة، وأن الطموح والإصرار هما الوقود الحقيقى، ورغم أجواء التوجّس من المجتمع، وثناء البعض على «رحلتها الشاقة»، كانت تنأى بنفسها عن الشفقة: لم ترغب أن يُنظر إليها كضحية، بل كرائدة تختار أن تُشكّل حياتها.
وعلى الرغم من أنها رفضت الكشف عن اسمها، فإن قصتها بدأت تنتشر فى أوساط صغيرة كرمز لصمود غير مرئى، لقصة امرأة رفضت أن تُحكم عليها بهويّة ميلادها أو بوضعها السابق، وبعض من تعرفوا عليها أحيانًا عرضوا عليها العمل أو دعمها ليس من رحمة، بل من احترام لقدرتها.
أما مشروع الزواج الذى جمعها بزميلها فى الجامعة، فقد ظل ذكرى نابضة بالأمل، رغم رفض أسرته. لقد أصبح هذا الحلم ليس باعتباره علاقة تقليدية بل كدافع إضافى لها، يذكرها يوميًا: أنها تستحق أن تختار، أن تُحب، أن تحيا بحرية. وتحلم بتكوين أسرة.
اليوم، تقف على أولى بوابات مستقبلها: لا ضمانات، لا تعهدات، لكن بها يقين أن الحياة قد تمنح من يسعى إليها، حتى لو لم تمنحهم بداية سهلة، وقصتها بصمودها، بعزمها، بحريتها تظل رسالة لكل من يحاول أن يختزل إنسانا بماضيه.
قصة أخرى للتحديات التى يواجهها أبناء الملاجئ يرويها «أحمد» البالغ من العمر 28 عامًا، أحمد حصل على ليسانس فى إدارة الأعمال، قضى سنواته الأولى فى مؤسسة للرعاية الاجتماعية بعد أن فقد والديه وهو طفل، رغم شهادته وتحقيقه لإنجازات كانت بعيدة عن متناول الكثيرين، يقول إنه لا يزال يعانى من النظرة التى يلقاها من المجتمع.. نظرة تقول له «أنت لقيط»، وكأن تلك الكلمة تكفى لتضعه خارج دائرة الناس العاديين.
الشاب الطموح لم يسمح لهذه النظرة أن توقفه، بل بالعكس، جعلته أكثر حرصًا على تطوير ذاته وتحسين مهاراته، وأكثر إدراكًا لقيمة ما حققه بنفسه دون أى دعم عائلى، ويضحك قائلًا: «أنا تعودت على هذه النظرة، وأعرف أنها تتغير مع الوقت، وأنه كلما أظهرت إنجازاتى وقدرتى على الاعتماد على نفسى، بدأ الناس يحترموننى أكثر، حتى لو لم ينسوا أصلى».
بسؤاله عن حياته العاطفية، فالأمر مختلف، عن الرواية السابقة، فلا يشعر بالارتياح الكامل أمام فكرة الارتباط بشخص من المجتمع العادى، مشيرا إلى أن التجربة بالنسبة له مليئة بالتحديات، والاختلافات الثقافية والاجتماعية بينه وبين الآخرين قد تصنع فجوة كبيرة، لكنه يشعر بالطمأنينة تجاه فتيات الملجأ، اللواتى يعرف أصلهن وفصلهن، ويقدر أنهن مررن بتجارب مشابهة للتجارب التى عاشها.
يقول أحمد: «بصراحة، بنت الملجأ بالنسبة لى أفضل من أى بنت خارجه.. أعرف أصلها وفصلها، وأستطيع التفاهم معها من أول كلمة، لأنها عايشة نفس الظروف تقريبًا، مما يعطينى إحساسا بالأمان والتفاهم».
ورغم هذا، أحمد ليس مقيدًا بفكرة الزواج من داخل الملجأ فقط، لكنه يرى أن التجربة المشتركة، الفهم العميق لماضى بعضهم البعض، يشكل أساسًا أقوى لبناء علاقة متينة. وهو يؤكد أن المجتمع يبدأ تدريجيًا فى تغيير نظرته إليه، خاصة عندما يرى قدرته على الاستقلال وتحمل المسؤولية وتحقيق ذاته.
ويضيف: «أنا متقبل المجتمع كما هو، ومش غاضب، لأن كل واحد عايش حياته، لكننى حريص على اختياراتى اللى تضمن لى السعادة والاستقرار»، ويقول إن أهم التحديات أمامه فى العمل داخل الورش خاصة أن لديه حرفة النجارة ويحاول أن يكوّن نفسه بالعمل بعيدا عن الوظيفة الميرى، ويتابع: «الشهادة كانت بالنسبة لى واجهة اجتماعية لكن مش بتأكل عيش مع اللى زينا».
تحليل نفسى.. كيف تواجه المجتمع؟!
تقول الدكتورة عبير عبدالله، استشارى العلاقات الأسرية، إن الملجأ ليس مجرد مكان للإقامة الآمنة، بل يمثل مركزًا متكاملًا للرعاية النفسية والاجتماعية والتعليمية للفتيات اللاتى فقدن أسرهن أو يعشن فى ظروف صعبة، مؤكدة أن الهدف الأساسى هو تمكين الفتيات من مواجهة الحياة بثقة واستقلالية.
وتضيف: «الفتيات، خاصة الأيتام أو مجهولى النسب، بحاجة ماسة إلى توفير بيئة مستقرة تمنحهن شعورًا بالأمان وتساعدهن على النمو النفسى السليم. الرعاية النفسية داخل الملجأ جزء لا يتجزأ من هذه العملية، فنحن نعمل على تقديم الدعم النفسى المستمر ومتابعة مشاعرهن ومخاوفهن، وخاصة خوفهن من المجتمع بعد مغادرة الملجأ».
وتشير الدكتورة عبير إلى أن التعليم والتأهيل المهنى يمثلان ركيزة أساسية فى عمل الملجأ، قائلة: «نحرص على تعليم الفتيات وتأهيلهن بما يتناسب مع قدراتهن واهتماماتهن، مع التركيز على تعليم الحرف والمهن التى تمكنهن من الاعتماد على أنفسهن ماليًا بعد مغادرة الدار، مشيرة إلى أنّ الفكرة هى تمكين الفتاة لكى لا تشعر بالاعتماد الكامل على الآخرين، بل أن تكون قادرة على مواجهة تحديات الحياة بثقة».
وتؤكد الدكتورة عبير أن خروج الفتيات من الملجأ بعد سن البلوغ أو عند بلوغ الثامنة عشرة يمثل نقطة تحول حرجة، موضحة: «الفتيات لديهن خيار بعد سن 18: إما الزواج، أو العودة لأسرهن إذا كانت العلاقة متاحة وصحية، أو الانتقال للحياة المستقلة. ونحن لا نتخلى عنهن، بل نتابع حياتهن بعد خروجهن من الملجأ، نقدّم الدعم المادى والمعنوى ونتأكد من استقرارهن، سواء فى حياتهن العملية أو الأسرية».
وتوضح الدكتورة عبير أن بعض مؤسسات الدفاع المدنى والجهات المسئولة قد توفر للفتيات شققًا مستقلة بعد الزواج، ولكن هذا مشروط بالتأكد من حسن النوايا والجدية من قبل المتقدمين للزواج، قائلة: «يجب التأكد أن الشخص ليس طامعًا أو مستغِلًا للفتاة. نحن نراقب هذه الخطوات ونتدخل عند الحاجة لحمايتها وضمان حقوقها».
أما عن الجانب النفسى، فتشير الدكتورة عبير إلى أن التحدى الأكبر هو معالجة رهبة الفتيات من المجتمع، سواء فى الشارع أو فى العمل أو حتى عند اتخاذ قرار الزواج: «الفتاة التى عاشت داخل الملجأ غالبًا ما تكون خائفة من الاختلاط بالمجتمع، وتشعر بعدم الثقة فى نفسها. هنا يأتى دور الأخصائى النفسى، الذى يعمل مع الفتيات على تعزيز ثقتهم بأنفسهم، ومعالجة القلق والخوف من المجتمع، وتعليمهن كيفية التعامل مع المواقف المختلفة بشكل صحى وآمن».
تختتم الدكتورة عبير تصريحها بالتأكيد أن الملجأ يمثل أكثر من مجرد مأوى، فهو بيئة متكاملة للتأهيل النفسى والاجتماعى والمهنى، وتابعت: «نحن لا نسعى فقط إلى حمايتهن من الأخطار المباشرة، بل نعمل على تجهيزهن للحياة الواقعية، ليتسنى لكل فتاة أن تخطو بثقة نحو مستقبل مستقل وناجح، وتكون قادرة على مواجهة التحديات والمجتمع بمسؤولية ووعى».
مقترح قانونى
قالت نهى الجندى، الخبيرة القانونية، إنه من الضرورى إيجاد آلية عملية لتسهيل حياة الشباب الذين خرجوا من دور الرعاية والملاجئ، مشيرة إلى أن منح كل شخص منهم كودًا فريدًا ورقمًا قوميًّا خاصًا به سيكون خطوة حيوية لتسجيلهم بسهولة فى المؤسسات المختلفة دون الحاجة للرجوع إلى أسماء واهية أو البحث عن أوراق الأب أو الأم.
وأضافت «الجندى» أنّ هذا الإجراء لن يسهم فقط فى تسهيل التعاملات الحكومية لهم، بل سيمنحهم أيضا شعورًا بالأمان القانونى والاعتماد على الذات، مؤكدة أن الدولة مطالبة بإدماج هذه الفئة بشكل كامل ضمن منظومة الخدمات الرسمية لتجنب أى عراقيل مستقبلية، وتحقيق حماية حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية بشكل فعال.
وتابعت: «من وجهة نظرى، ليس كافيًا أن نترك من خرجوا من دور الرعاية أو الملاجئ عالقين بين وثائق غير مكتملة وهوية غير مستقرة، بل يجب أن نضمن لهم بداية تُوازى معاناتهم بداية توفر لهم السند القانونى والمجتمعى. حصول كل شاب أو فتاة خرجوا من دار رعاية على «كود فريد» أو رقم قومى مستقل، ليس مجرد فكرة تنظيمية، بل خطوة أساسية لضمان حقوقهم الأساسية من أول يوم يقررون فيه الوقوف على قدميهم. هذا الكود يفتح أمامهم الأبواب: من السكن إلى التعليم، من العمل إلى التأمين أو المعاشات الاجتماعية، من التقديم على منح إلى تسجيل عقود زواج أو عمل بدون أن يُحرموا من هذه الحقوق بسبب نقص أوراق أو لغط إدارى.
وأشارت نهى الجندى إلى أنّ وجود هوية قانونية مستقلة يمنحهم ومن حولهم شعورًا بالأمان القانونى؛ فيصبحون أفرادًا معترفًا بهم فى المجتمع، لا «مجهولين» أو «مؤقتين»، وتابعت: خطوة كهذه تعنى إزالة وصمة الغياب أو مجهولية النسب، وتسد الباب أمام أى استغلال أو تمييز محتمل.
من جهة ثانية، شددت الخبيرة القانونية على ضرورة أن تقترن هذه الخطوة بنظام متابعة اجتماعى شامل ودعم نفسى، تدريب مهنى، تأهيل لسوق العمل بحيث لا يترك شباب الملاجئ لحالهم بعد الخروج، بل يُدمَجوا فى المجتمع فعليًا كأفراد منتجين ومستقلين، موضحة أنّ الدولة والمؤسسات المعنية مدعوة لوضع آليات واضحة: صندوق دعم، توجيه مهنى، توثيق قضائى، حماية قانونية كل ذلك ضمن إطار يحميهم من التهميش.