تصحيح مسار
«حوار الأمنيات».. حلم الثراء فى عيون طفل!!
الصف الثالث الابتدائى مرحلة الطفولة المليئة بالخيال اللامحدود والطموحات العفوية، فى هذه السن، تبدأ شخصيات الأطفال في التبلور، وتتفتح أذهانهم على فكرة المستقبل والمهن التى سيشغلونها. الأمنيات في هذا العمر تكون مزيجا من الإعجاب بالقدوة، أو الانبهار بشيء شاهدوه، أو الرغبة فى فعل الخير.
وكعادتى، عند سؤالى لإبنى عما حدث أو دار فى المدرسة فى يومه، وخاصة مع زملائه، أخبرنى بحوار غريب من وجهة نظره -وأنا أيضا بعد سماعى له- أنه أثناء تواجده فى فناء المدرسة، اجتمع خمسة زملاء مقربون منه وبدأوا حوارا عفويا عن الشيء الذى يتمنى كل واحد منهم أن يصبح عليه عندما يكبر، هذا الحوار كشف عن أحلام مألوفة، وأمنية واحدة كانت مختلفة وغريبة بعض الشيء عن البقية، كانت أمنياتهم تتراوح بين الأمانى التقليدية والمفاجآت غير المتوقعة، ليأتى رأى أحدهم صادما ومثيرا للجدل، كاشفا عن نظرة اقتصادية مبكرة لمهنة التعليم.
بدأ الحوار عندما سأل أحدهم زملائه: «ماذا تتمنون أن تكونوا فى المستقبل؟».
أجاب الأول: «أنا سأكون طبيب أطفال، أريد أن أساعد الأطفال المرضى لأرى الابتسامة على وجوههم دائما»، وأجاب الثانى (وهو يرفع يده بحماس): «أنا سأصبح رائد فضاء، سأذهب إلى المريخ وأكتشف الكواكب»، ورد الثالث: «أنا أتمنى أن أصبح مهندسا معماريا، سأبنى أطول برج فى العالم وأصمم بيوتا جميلة وآمنة جدا للجميع»، ورد الرابع: «أما أنا، فأريد أن أكون رساما مشهورا سأرسم لوحات عن الطبيعة والأشياء الجميلة لكى تسعد قلوب الناس».
ثم التفت الجميع نحو الخامس الذي كان صامتا، وسأله أحدهم: «وماذا عنك؟ هل ستصبح لاعب كرة قدم مشهور؟» فرد قائلا: «لا.. أنا أريد أن أصبح مدرسا لمادة.. كذا أو كذا أو كذا، ساد صمت قصير، ثم ضحك أحدهم قليلا وقال: «مدرس؟ ولكنها مهنة عادية، لماذا لم تختر شيئا مثيرا مثل الطيران أو بناء الأبراج؟»، فقال لهم: «أعلم أن الأمر يبدو غريبا، لكننى فكرت كثيرا، جميع المهن التى ذكرت رائعة، الطبيب يعالج، والمهندس يبنى، والرسام يسعد الناس، ورائد الفضاء يستكشف.. ولكن ماذا بعد التخرج من كلياتكم؟ ما هى الفرص الفعلية على أرض الواقع للحصول على عمل جيد ومناسب لتحقيق أمنياتكم؟».
ثم استطرد قائلا: «هنا توجد الفكرة يا أصدقائى.. لن أكون مجرد مدرس فى المدرسة فقط، بل سأصبح مدرس دروس خصوصية أيضا، لأن أحسن استثمار هو فى التعليم، كل الأهالى يدفعون مبالغ كبيرة للمدرسين الخصوصيين لضمان نجاح أبنائهم، أننى سأعطى دروسا إضافية للطلاب بعد المدرسة مقابل مبلغ كبير من المال، هذا العمل هو الأسهل في الحصول عليه، فمهنة التدريس مطلوبة دائما، على عكس المهن الأخرى التى تحتاج إلى فرص عمل محددة، والأهم من ذلك، أن مكاسبها المادية وفيرة ومستمرة طوال العام الدراسى، فمدرس المادة المهمة مثل الرياضيات أو العلوم أو اللغة يكسب ثروة حقيقية من هذه الدروس، خاصة إذا كانت فى مدارس خاصة أو لغات».
وأكد لهم الطالب أن الطلب على الدروس الخصوصية مستمر ولا يتوقف، مما يضمن له دخلا مستقرا وكبيرا مقارنة بوظيفة من المهن الأخرى التى قد تكون فرص العمل فيها أقل أو دخلها غير كاف.
وهنا توقف الزملاء الخمسة عن حوارهم للحظة، وكل منهم يفكر في كلام زميلهم الذى كشف عن جانب غير متوقع من طموحات الأطفال، حيث لم تعد الأحلام مقتصرة على الشغف والخدمة العامة فقط، بل دخلها البعد المادى والاقتصادى.
وبالفعل بالبحث وجدت أنه فى بعض الإحصائيات أن نسبة كبيرة من إنفاق الأسرة المصرية على التعليم تذهب إلى الدروس الخصوصية، وأن التقديرات تشير إلى أن إجمالى ما ينفقه المصريون على الدروس الخصوصية يمكن أن يصل إلى عشرات المليارات من الجنيهات سنويًا، حيث تستحوذ الدروس الخصوصية ومجموعات التقوية على نسبة عالية قد تصل إلى حوالى الثلث أو أكثر من إجمالى إنفاق الأسرة السنوى على التعليم، وذلك بحسب عدد الأبناء فى المراحل التعليمية المختلفة، بل وقد تزيد عن ذلك فى بعض المناطق وحسب نوعية الدراسة والمدرسة نفسها، وهذا يوضح أن الأهالى ينفقون أموالا طائلة على هذا البند، ما يجعل مهنة المدرس الخصوصى مصدر دخل ضخم ومضمون، من وجهة نظر هذا الطالب، وآخرين من الممكن أن يتبنون أيضا هذه الفكرة.
إن نظرة طفل في الصف الثالث الابتدائي إلى مهنة التدريس كـ«باب سهل» للدخل الوفير والوظيفة المضمونة، لهى دلالة واضحة على أن واقع سوق العمل والتحديات الاقتصادية تنعكس حتى على أفكار صغارنا.
ويبقى السؤال هنا.. هل سيتحول التعليم فى عيون الجيل الجديد إلى مجرد وسيلة للربح السريع، أم سيظل حاملا لرسالة العلم والتربية والقيم النبيلة؟