الناصية
لغز الصين العظيم (3)
لا تتعجل وتجرى وراء الوصف السهل والتفسير البسيط لما حدث فى الصين بانه «معجزة».. وإحالة كل قدرة على التقدم بإنه نوع من الاعجاز فهذا عجز عن فهم حقيقة ما جرى فى هذا البلد، وتفسير يليق بالمحتالين والدجالين من المشعوذين والسحرة الذين يلجأ إليهم العاجزون عن مواجهة أقدارهم ومصائرهم أمام قوى طبيعية أو خفية!
وربما شُغل قراءة الفنجان وفتح «المندل» يتوافق مع ثقافتنا العربية وتستكين إليه عقولنا لترتاح من أعباء الفكر والتفكير.. ولكن الواقع أن ما حدث فى الصين، وبشمولية أوسع ما جرى من تغيير جذرى فى عدد من دول أسيوية فى سنوات قليلة هو نتيجة حكمة اسيوية وفلسفة شرقية عميقتين وممتدتين وقديمتين استمرا متصلتين ومتواصلتين مع تاريخ حضارى وثقافى منذ آلاف السنين!
ورغم أننى وضعت فى المقالين السابقين الصين فى مقابل مصر، لمحاولة فهم تأخر بلد قديم مثل مصر عن بلد قديم مثل الصين على اعتبار الوحدة فى العمق الحضارى والثقافى للبلدين.. ولكن الحقيقة أن مصر حدث لها شيئان أحدهما من صنع الحضارات والبلدان التى قاموا باحتلالها وغزوها ما أدى إلى انقطاع التواصل مع تاريخنا الحضارى، والثانى من صنعنا وبالدقة من صنع زعمائنا السياسيين وهو فقدان القدرة على استيعاب المتغيرات الدولية فى اللحظة التاريخية المحورية بعد الحرب العالمية الثانية، بينما الصين واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة ويمكن تايوان استطاعوا التعامل مع ذلك بالحكمة العقلية والثراء الروحى الاسيوى واكتفينا نحن بالانفعالات العاطفية وبالموعظة الحسنة والمنافع الحسية!
ولذلك الصينيون أكثر من مجرد آلات أو مكينات تعمل بلا قلب أو روح، وغير صحيح أو دقيق أن مفتاح تفوق هذا الشعب العمل والجهد البدنى فقط فهذا يجرده من إنسانيته وروحه وفكره وثقافته الثرية وينزع عنه جدلية العلاقة بينه وبين الكون وقدرته على استيعاب الطاقة الكامنة بداخله وإعادة توظيفها وإنتاجها فى معنى وقيمة للحياة والإنسانية!
والثوريون الأوائل فى الصين من أول «صن يات صن» (أول رئيس للجمهورية الصينية) و«ماو تسى تونخ» والمحارب الثورى «تشو ده» و«شو إن لاي» كانوا أقرب إلى المفكرين منهم إلى السياسيين.. ولهذا يتعامل الزعماء الصينون مع الأفكار أكثر من الانطباعات، ومشاعر الحب والكره.. ووفق خطط واستراتيجيات تمكنوا من خلالها أن يجعلوا من الصين واحدة من الدول الكبرى الخمس فى مجلس الأمن، ولها حضور دولى مؤثر مثلها مثل أمريكا وروسيا وانجلترا وفرنسا، ومع ذلك لم تتخل عن مساعدة كل قوى التحرر الوطنى فى العالم النامى ضد رغبة الدول الكبرى، وفى الوقت نفسه احتفظت بعلاقتها مع أمريكا وأوروبا وروسيا حتى فى أشد مراحل العداء بينها.. ولا أصدق مثال لذلك أن الرئيس الأمريكى ترامب الذى يعتبر أكثر الرؤساء الأمريكيين عداء للصين ولاقتصادها ويحاول بكل الطرق محاربته ولكنه يضطر للجلوس مع الصين والتفاوض مع زعمائها.. وهم يقابلون ذلك بكل ترحاب ولا يعلنون المقاطعة والخصام مثل الأطفال كما نفعل نحن العرب حتى مع بعضنا البعض!
يقال كثيرًا إذا أردت معرفة شعبًا شاهد حركة المرور فيه ومدى التزامه بالقواعد والقانون.. وأعتقد أن ذلك غير صحيح فمعرفة أى شعب يكون من طعامه وطريقة أكله.. ونحن نأكل كل وجبة يوميًا بنهم شديد وكأننا لم نأكل من قبل ولن نأكل بعدها.. ليس لنا آداب فى الأكل ولا فى نوعيته ولا كمياته، بينما الاسيوى يأكل فى صمت وكأنه يغذى روحه وعقله لا من أجل أن يربى «كرشه».. وطعامه لا يزيد عن الأرز والسمك والقليل من اللحم وبعض الخضروات والفاكهة، ويعمل كثيرًا، ويتأمل أكثر، وينام قليلًا، ويصحو مع شروق الشمس.. بينما نحن مثل الطيور الجوارح من النسور والصقور والعقاب ننهش فى اللحم نهشًا.. ثم ننام النهار كله إلى مغيب الشمس!