الزاد
عصر «اللقطة»
كأننا صرنا نعيش فى عالم «الصورة أولاً».. عالم لا تُمنح فيها الأوسمة على الإنجاز، بل على جودة الكادر وزاوية الإضاءة. مناسباتنا لم تعد مناسبات، بل تحولت إلى «مهرجان كان للموبايل»، والكل فيه نجم أحمر يسير على «ريد كاربت» صنَعَه بنفسه أمام لجنة الانتخابات أو بوابة مؤتمر ما.
شىء محيّر.. فبدلًا من أن يلتقط الناس اللحظة، أصبحت اللحظة هى التى تلتقط الناس. وبدلًا من أن يبحث المواطن عن دوره، أصبح بعض المشاهير يبحثون عن الكاميرا، حتى لو كانت المناسبة لا تحتمل أكثر من ورقة وصندوق.
فى هذا الزحام المزدحم بالوجوه اللامعة من فرط كريمات الوجه، يضيع وجه حقيقى.. وجه المواطن العادى الذى لا يعرف أين يقف الفلاش، ولا يجيد رفع حاجبه فى توقيت صحيح ليضمن «صورة تمام».
أصبح عندنا أزمة حقيقية تتكرر مع كل مناسبة، أزمة يمكن أن نطلق عليها «عُقدة الصورة». لم تعد بعض الفئات تذهب لتأدية واجبها الطبيعى بوصفه فعلًا وطنيًا أو إنسانيًا، بل بوصفه فرصة ذهبية لالتقاط صورة. فى كل حدث عام، من الانتخابات التى نعيش أجواءها الآن، إلى المؤتمرات، إلى الزيارات والمناسبات الاجتماعية.. لا يخلو المشهد من استعراض إعلامى يقوم به وزراء وفنانون وكتّاب ومسئولون، بل وكل من يتصور فى نفسه أهمية تستحق أن تُوثَّق على الملأ.
الصورة تتحول هنا من شاهد على الفعل إلى غاية الفعل ذاته. يقف المسؤول أمام الكاميرا ليعلن مشاركته، وكأن المشاركة لا تُحتسب إلا بإثباتها فى «بوست» أو «تغريدة». ويتسابق الفنانون والوجوه العامة لنشر صورهم أثناء الإدلاء بأصواتهم، أو وهم يرفعون شعارًا، أو يسجلون حضورًا فى أى محفل.. حتى أصبح الشعار غير المُعلن: أنا هنا.. انظروا إليّ.
لكن الحقيقة التى يتجاهلها البعض أن الأهم من صورة المسؤول هو صورة المواطن العادى. المواطن الذى يقف فى الطابور بلا كاميرات ترصد خطواته، ولا صفحات تنشر ابتسامته، ولا فريق إعلامى يرافقه. المواطن الذى يمارس دوره بوعى، ويشارك فى صنع المشهد بصمت، ويؤدى حقه تجاه الوطن دون انتظار تصفيق أو إعجاب.
هذا المواطن هو البطل الحقيقى.
هو الذى يجب أن تتصدر صورته المشهد.
لأن الأوطان تُبنى بوعى الناس.. لا بصور المشاهير.
الخطير فى الأمر أن هذا الشو الإعلامى يُفرغ المشاركة العامة من مضمونها، ويحوّل بعض المسؤولية الوطنية إلى مساحة للدعاية الشخصية. وهنا يصبح السؤال واجبًا: هل نشارك لأننا نؤمن بالفعل أم لأننا نريد أن نُرى؟
وما الذى يبقى من قيمة الفعل عندما يتحول إلى مجرد «تابلوه» للعرض على صفحات التواصل الاجتماعى؟
نحن بحاجة إلى إعادة ضبط بوصلتنا الأخلاقية والإعلامية. أن نُعيد الاعتبار لصورة المواطن الحقيقى، وأن نُقلّل من مساحة الاستعراض التى باتت تبتلع كل حدث. فالقيمة لا تُقاس بعدد الصور المنشورة، بل بعدد الأفعال الصادقة التى تتم بعيدًا عن ضوء الكاميرا.
لقد آن الأوان أن نتوقف قليلًا ونسأل أنفسنا:
هل نريد مجتمعًا يتصدره «الشو» الإعلامى.. أم مجتمعًا يتصدره الوعى؟
الإجابة ستظهر بوضوح عندما نرى صورة المواطن العادى فى مقدمة المشهد. فهو وحده مَن يثبت أن الأوطان تُبنى بالفعل.. لا باللقطة.