إعادة تشكيل العقل الجمعي في العصر الرقمي
يشهد العالم اليوم سباقًا محمومًا فيما يتصل بتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، فهذه التقنيات أصبحت جزءًا أصيلًا من تفاصيل حياتنا اليومية؛ بداية من الحصول على الأخبار، إلى ما نشتريه، وما نتابعه، وكيف نفكر أيضاً، عبر ما يعرف بالأتمتة الذكية أو الخورازميات فالمستخدم اليوم لا يتلقى المعلومات بقدر ما يتم اختيارها له بناءً على سلوكه الرقمي واهتماماته السابقة، عبر تحليل وقت البقاء في متابعة المحتوى ومدى قبولنا للمحتوى التالي من نفس النوع، وهو ما يجعل منصات التواصل الاجتماعي المؤتمتة تحيطنا بسيل من المحتوى الذي يتشابه مع حالتنا النفسية والعقلية. وهو ما يقود تدريجيًا إلى "غرف الصدى" التي قد تعزل المستخدم داخل دائرة ضيقة من الأفكار. الأمر الذي يضمن بقائه في حالة مشاهدة غير واعية لفترات طويلة. ومع هذا الأثر المتسارع تبرز أسئلة جوهرية تهم المجتمعات والدول على حد سواء، من بينها: هل يمكن أن يؤثر الذكاء الاصطناعي في الأمن الفكري؟ ومن يتحكم فعليًا في عقولنا؟
وهنا تكم الإجابة في معرفة أن الأمن الفكري لا يقتصر على حماية المجتمع من الأفكار الهدّامة أو المحتوى المتطرف، بل يمتد ليشمل قدرة الفرد على امتلاك رؤية مستقلة تقوم على الوعي والتحليل. وبالتالي يمكن القول بأنه مع انتشار الخوارزميات التي تُرشّح المحتوى وتحدّد ما يظهر لنا على منصات التواصل الاجتماعي، أصبحت التقنية لاعبًا رئيسيًا في تشكيل الوعي الجمعي. وخطورة هذا المشهد تكمن في أن الذكاء الاصطناعي لا يعمل وحده، بل يُدار من قِبَل شركات تمتلك قدرة هائلة على جمع البيانات ومعالجتها. هذا الاحتكار المعرفي يمنح تلك الشركات تأثيرًا غير مسبوق على توجهات الأفراد والمجتمعات، سواء بقصد توجيه السلوك شرائيًا، أو سياسيًا، أو حتى ثقافيًا. ومع غياب الشفافية الكافية حول آلية عمل الخوارزميات، يصبح المستخدم في موقع المتلقي لا الفاعل، مما يضع الأمن الفكري أمام تحدٍّ جديد.
ورغم هذه المخاطر، لا ينبغي النظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه تهديدًا بحتًا. فهذه التقنيات تحمل في طياتها فرصًا لتعزيز الأمن الفكري، من خلال الكشف المبكر عن المحتوى المتطرف، ورصد حملات التضليل، وتحليل الأنماط السلوكية التي قد تهدد استقرار المجتمعات. كما يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في تعزيز التفكير النقدي، عبر أدوات تعليمية وتوعوية مبنية على تحليل البيانات وتخصيص المعرفة لكل متعلم.
ومن ثم فإن التوازن بين الفائدة والمخاطر يتطلب سياسات واضحة، تضمن شفافية الخوارزميات، وتمنع الاحتكار المعلوماتي، وتدعم حق الفرد في معرفة كيف تُشكَّل تجربته الرقمية. كما يتطلب وعيًا مجتمعيًا يحفّز على التحقق من المعلومات، وتوسيع مصادر المعرفة، والقدرة على التفكير المستقل بعيدًا عن تأثير "الآلة الذكية". والأهم هو وجود تجارب عربية فاعلة في هذا المجال تضمن لنا الوجود في هذا الفضاء الذكي وليس أن نقف في زاوية التلقي كالعادة.