مركز التدريب بدار الإفتاء يختتم فعاليات دورته الخامسة "مهارات صياغة الفتوى الشرعية"
اختتم مركز التدريب بدار الإفتاء المصرية فعاليات الدورة الخامسة "مهارات صياغة الفتوى الشرعية" ؛ لتأهيل الباحثين الشرعيين بدار الإفتاء على منهجيات الإفتاء المعاصر وصقل أدواتهم العلمية والبحثية واللغوية.
وجاء ختام البرنامج التدريبي بمجموعة من المحاضرات العلمية، افتتحها الدكتور أحمد الشرقاوي، وكيل قطاع المعاهد الأزهرية، تناول فيها جملة من القضايا المنهجية والأخلاقية التي تُعد من الركائز الأساسية للعمل الإفتائي الرشيد.
واستهل المحاضرة ببيان الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها المفتي، مؤكدًا أن البعد الأخلاقي يمثل الأساس الذي تُبنى عليه سلامة الفتوى وقبولها، ومن أبرز هذه الأخلاق: الإخلاص، والأمانة العلمية، والتواضع، والتثبت، وتجرد المفتي عن الهوى، مع استحضار عظم المسؤولية المترتبة على التوقيع عن الله تعالى.
وانتقل إلى الحديث عن الفروق الدقيقة بين دلالات بعض الألفاظ الشرعية واللغوية، موضحًا أثر ذلك مباشرة في صياغة الفتوى ودقة الجواب؛ إذ إن اختلاف الدلالة قد يترتب عليه اختلاف الحكم أو توسيعه أو تقييده. وأكد أن عدم الانتباه لدلالات الألفاظ قد يؤدي إلى سوء الفهم أو تنزيل الحكم في غير موضعه.
وأشار الدكتور أحمد الشرقاوي إلى أهمية وعي الباحث الشرعي بمقامات الخطاب الإفتائي، واختيار الألفاظ الملائمة لحال المستفتي وسياق السؤال، مع مراعاة المقاصد الشرعية والآثار المترتبة على استعمال المصطلحات، بما يحقق الوضوح ويمنع الالتباس.
واختتم المحاضرة بالتأكيد على أن الجمع بين الأخلاق العلمية والملكة اللغوية الدقيقة يُعد شرطًا أساسيًا لحُسن صياغة الفتوى، وأن إعداد المفتي القادر على الجمع بين العلم والخلق واللغة أحد أهم أهداف دورة مهارات صياغة الفتوى.
فيما جاءت المحاضرة الثانية، تحت عنوان المكتبات الإلكترونية، وقدمها الدكتور هشام ربيع مدير إدارة الفروع الفقهية بدار الإفتاء، وذلك في إطار تنمية مهارات الباحث الشرعي في التعامل مع البيئة الرقمية المعاصرة وتسخير أدواتها في خدمة البحث العلمي والفتوى المنضبطة.
واستهل المحاضرة بالحديث عن البحث الشرعي في البيئة الرقمية، مبيّنًا التحول الكبير في وسائل الوصول إلى المعرفة، وأثر ذلك في تسريع البحث وتوسيع دائرة الاطلاع، مع التأكيد على أن هذا التحول يستلزم وعيًا منهجيًا يضمن سلامة التوظيف ودقة النتائج.
ثم تناول فضيلته المكتبات الإلكترونية ودورها المحوري في خدمة الباحث الشرعي، من حيث إتاحة مصادر التراث الفقهي والأصولي والحديثي، مؤكدًا ضرورة التحقق من النقول، وفهم السياقات العلمية للنصوص، وعدم الاكتفاء بنتائج البحث المجتزأة.
وتطرقت المحاضرة إلى توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي، ومن ذلك الإشارة إلى أداة Consensus AI في دعم الوصول إلى الدراسات الأكاديمية وتحليل الاتجاهات البحثية، مع التنبيه إلى أن هذه الأدوات لا تُغني عن المنهج العلمي ولا عن ملكة الترجيح الفقهي.

كما تناولت المحاضرة الشبكات الاجتماعية الخاصة بالباحثين، وأهميتها في تبادل الخبرات العلمية، والاطلاع على المستجدات البحثية، وبناء مجتمع معرفي متخصص، بشرط الانضباط العلمي في التلقي والمشاركة.
وفي محور مهارات البحث على الإنترنت، أكد الدكتور هشام ربيع على أهمية إتقان الباحث لآليات البحث الاحترافي، من حسن اختيار الكلمات المفتاحية، وتقييم موثوقية المصادر، والتمييز بين المحتوى العلمي الرصين وغير المنضبط، إلى جانب الاستفادة الواعية من أدوات الذكاء الاصطناعي.

كما شدد على ضرورة تحويل الاستهلاك الرقمي إلى استثمار علمي، من خلال اعتماد مفهوم «التصفح لأجل البحث العلمي» بدلًا من التصفح العشوائي، بحيث يكون الحضور الرقمي للباحث موجّهًا لخدمة أهدافه العلمية والبحثية.
وتناول كذلك مفهوم بناء المكتبة الرقمية الشخصية، مؤكدًا أهمية العناية بجمع المراجع وتنظيمها وتصنيفها، بما يجعل الباحث «صياد مراجع» قادرًا على الوصول السريع إلى المعلومة واستدعائها عند الحاجة.
واختتمت المحاضرة بالتعريف بـ نظم إدارة المعرفة، مع الإشارة إلى نظام Notion، وبيان دوره في تنظيم الملاحظات والأفكار، وبناء قواعد بيانات بحثية تُسهم في إحكام البحث ودعم عملية صياغة الفتوى.
أما المحاضرة الثالثة فألقاها الدكتور عاصم محمد عبد القادر عضو هيئة التدريس بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر ، وتنازلت موضوع "مهارات الصياغة اللغوية"، ركّز خلالها على الدور المحوري للغة في إحكام الفتوى وضبط دلالاتها، مؤكدًا أن الصياغة اللغوية تمثل ركيزة أساسية في بناء الفتوى، وأن سلامة الحكم الشرعي لا تكتمل إلا بسلامة العبارة ودقة الدلالة، ولا سيما عند التعامل مع الألفاظ العربية ذات الأبعاد الصرفية والدلالية المتنوعة.
وتناول بالشرح معاني صيغ الأبنية وأثرها في توجيه المعنى، مبينًا أن اختلاف الصيغة يؤدي إلى اختلاف الدلالة، ولو اشتركت الألفاظ في أصل واحد، كما استعرض مستويات تحليل الخطاب العربي المتمثلة في: الصوتي، والصرفي، والتركيبي، والدلالي، مؤكدًا أن الخلل في أي منها ينعكس على وضوح المعنى.
كما أوضح العلاقة بين علم الصرف الذي يختص ببنية الكلمة المفردة، وعلم النحو الذي يعنى بتركيب الكلام لإنتاج المعنى الصحيح، منبهًا إلى بعض القواعد اللغوية المؤثرة في سلامة الدلالة، ومنها عود الضمير على متقدم لفظًا ورتبة.
وتطرّق إلى صيغ المبالغة ودلالاتها، موضحًا أن حسن اختيار الصيغة ليس أمرًا شكليًا، بل عنصر مؤثر في قوة المعنى ودقته في صياغة الفتوى، مع التأكيد على أهمية الرجوع إلى المراجع اللغوية والدلالية المعتبرة.
واختُتمت المحاضرة بالتأكيد على أن إتقان الصياغة اللغوية، وفهم دلالات الأبنية العربية، وتحليل الخطاب تحليلًا علميًا رصينًا، يمثل أدوات أساسية في ضبط الفتوى وصيانتها من اللبس، ويُسهم في تحقيق أهداف الدورة في إعداد باحث شرعي واعٍ لغةً ومنهجًا.
كما ألقى فضيلة الدكتور عمرو الورداني أمين الفتوى بدار الإفتاء وعضو الهيئة الاستشارية العليا محاضرة استكمل فيها محاضرته حول البنية النموذجية للفتوى، مؤكدًا أن الصياغة الرشيدة للفتوى تقوم على وعيٍ منهجي يجمع بين سلامة الدليل، ودقة التنزيل، واستحضار المقاصد والمآلات.

وتناول فضيلته جملة من المحاور المعرفية والمنهجية، من أبرزها: التاريخات الإفتائية، وبنية البرهان الإفتائي، ومعمار التطبيق الفقهي، مع التأكيد على بصيرة العواقب الشرعية وأهميتها في تقدير آثار الفتوى ونتائجها. كما عرض مفاهيم متقدمة تشمل: سلم المعرفة الفقهية، وشبكات المعنى التشريعي، وخرائط السياق التشريعي، ومدارج اليقين والاستبانة، وهرمية الغايات العليا، ومجالات القياس المفتوحة، وبناء الشواهد المتساندة، بما يسهم في بناء فتوى متماسكة قادرة على الاستجابة للواقع.
وفي سياق الغايات الإفتائية، شدد د. عمرو الورداني على ضرورة حراسة المعنى قبل الحكم، وحماية الإنسان من تحول التكليف إلى عبء، والعمل على تحويل النصوص الشرعية إلى قدرة فاعلة على الإرشاد والتوجيه. كما أكد أهمية حفظ الوحدة الدينية والاجتماعية، وضبط أثر الفتوى في المجال العام بما يمنع الفتن ويصون الاستقرار، ويجعل من الفتوى أداة بناء ووعي لا سببًا للاضطراب والانقسام.