شَرْطَةٌ مائلة
مجلس السلام والوصاية على غزة
لم يكن قرار مجلس الأمن الأخير بشأن غزة مجرّد بيان دبلوماسي، بل تحول استراتيجي فرض نفسه على إسرائيل قبل أن تُقرّ به، ويعتبر محللون سياسيون إسرائيليون أن القرار يمثل "ضربة غير مسبوقة" لنتنياهو واليمين الإسرائيلي، ليس لأنه يؤسس لدولة فلسطينية، كما يدّعي بعض المبالغين، بل لأنه يعكس تحولًا في إدارة الصراع وانتقاله من قبضة إسرائيل المنفردة إلى ساحة دولية تجمع قوى عالمية وإقليمية، وتتدخل مباشرة في تحديد مستقبل غزة، وربما مستقبل المنطقة بأكملها.
يبتعد القرار جذريًا عن الخطاب الذي تبنّته حكومة اليمين الإسرائيلية الأكثر تطرفًا منذ تأسيسها، لا سيما منذ 7 أكتوبر2023، ويقلب معادلة نتنياهو رأسًا على عقب، فبدلًا من "نصر مطلق"؛ يفرض المجتمع الدولي ترتيبات طويلة الأمد تقلّص من حرية إسرائيل العسكرية، وتمنح لاعبين، مثل مصر وقطر وتركيا، نفوذًا مضاعفًا في غزة، سياسيًا وأمنيًا.
بالتزامن مع تصويت مجلس الأمن؛ أعلنت الولايات المتحدة استعدادها لبيع طائرات F-35 للسعودية، رغم معارضة إسرائيل، ويعكس هذا التحرك رغبة أمريكية في إجبار تل أبيب على الانخراط في ترتيبات إقليمية جديدة، تكون مقدمة لدخول المملكة في خط "السلام الإبراهيمي"، وسحب زمام المبادرة من يد نتنياهو، وتعزيز محور سعودي–أميركي مع قابلية لاندماج سياسي تركي-قطري وأمني مصري في غزة.
أعلنت السعودية أنه لا تطبيع بلا دولة فلسطينية، ولكن الأكثر أهمية الآن هو تدويل الصراع، فلأول مرة، يوجّه مجلس الأمن بإدخال قوة مسلحة دولية إلى أراضٍ احتلتها إسرائيل عام 1967، هذا يعني وجود جهات غير إسرائيلية وغير السلطة الفلسطينية، وتقليص القدرة العسكرية الإسرائيلية في غزة، ونقل الصراع من ملعب إسرائيل إلى ملعب العالم، ويأتي هذا التحرك الأميركي–السعودي المتزامن ليعكس أن قرار مجلس الأمن ليس خطوة معزولة، بل جزء من إعادة هندسة شاملة للمنطقة.
قرار مجلس الأمن ليس اعترافًا بدولة فلسطينية، لكنه، وفقا لإسرائيليين، يضعف قدرة تل أبيب على التحكم منفردة في مسار الأحداث، ويعيد تشكيل البيئة الإقليمية، ويكشف حدود القوة العسكرية في غياب إستراتيجية سياسية.
الأهم أنّه يعيد الصراع إلى الساحة الدولية، ويُخضع غزة — للمرة الأولى منذ عقود — لإدارة متعددة الأطراف، قد تفتح الباب أمام ترتيبات تاريخية لا تملك إسرائيل وحدها حق نقضها.
ينص القرار على إنشاء "مجلس السلام" ليكون الجهة المشرفة على إعادة إعمار غزة، وإدارة المرحلة الانتقالية، حتى اكتمال إصلاح السلطة الفلسطينية، وفي جوهره، يعتبر المجلس أن إصلاح السلطة والتقدم في الإعمار يهيئان الطريق لتقرير المصير والدولة الفلسطينية، كما يمنح القرار الدول المشاركة ومجلس السلام صلاحية إنشاء كيانات تشغيلية ذات سلطات دولية لإدارة غزة، بتمويل دولي وبإشراف أمريكي مباشر، مع العمل على إنشاء صندوق إعمار مخصص للقطاع.
أما أهم عناصر القرار فهو الإذن بإنشاء قوة استقرار دولية مسلحة، تحت قيادة موحدة يوافق عليها مجلس السلام، وبالتشاور الوثيق مع مصر وإسرائيل، وتتمتع بصلاحية استخدام جميع التدابير اللازمة لتنفيذ تفويضها وفق القانون الدولي، هذه القوة ستتولى: مراقبة وقف إطلاق النار، وتثبيت الترتيبات الأمنية، وتأمين الممرات الإنسانية، ثم التدرج في استلام السيطرة على القطاع مع انسحاب الجيش الإسرائيلي وفق جدول زمني متفق عليه، ومن المفترض أن تنتهي ولاية مجلس السلام والوجود الدولي، مدنيًا وأمنيًا، في نهاية 2027، مع إمكانية تمديد التفويض بالتشاور مع مصر وإسرائيل.
يضع القرار ضغطًا على نتنياهو، فهو بمثابة ضربة استراتيجية لليمين الإسرائيلي، حيث أعلن قطبيه بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن جفير رفضهما لأي قرار يمهد لإقامة دولة فلسطينية، ومن ثم هددا بالانقلاب على حكومة نتنياهو، وفي المقابل أعلن يائير لابيد زعيم المعارضة أنه سيقدم مشروع قانون للكنيست لتبني خطة ترامب لإنهاء الحرب على غزة وإعادة الأسرى الإسرائيليين ورفاتهم.
ليس قرار مجلس الأمن بشأن غزة ومجلس السلام في صالح الفلسطينيين، لأنه ينقل القضية برمتها إلى الولايات المتحدة بانحيازاتها وسيطرتها، ويتجاهل حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ولا يساهم في إنهاء الاحتلال، لكنه نقطة انعطاف في مسار الصراع، نوع من ضربة استراتيجية لليمين الإسرائيلي، ورسالة أن العالم لم يعد متقبلا لاستمرار حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، يمهد لوصاية دولية على غزة، ويفتح الباب أمام عودة للسلطة الفلسطينية إلى الطاولة، كما يفتح طريق نحو تطبيع مشروط بمسار سياسي وليس عسكريًا.
محمد عبد الدايم هندام، كاتب وشاعر، صحفي حر، أكاديمي، مُحاضر الأدب العبري الحديث والدراسات الإسرائيلية، كلية الآداب، جامعة المنصورة.