تطوير المشهد الحسيني ببلبيس يحافظ على قدسية مقابر الصحابة والتابعين
في الوقت الذي تتجه فيه الدولة المصرية نحو تحسين جودة الحياة في القرى، وبالتوازن مع مبادرة حياة كريمة التي تشهدها مختلف أنحاء الريف، يبرز مشروع تطوير مقابر العايد المعروف بـ «المشهد الحسيني» كأحد أبرز الجهود المجتمعية التي تعكس وعي الأهالي وقدرتهم على المشاركة في إعادة صياغة بيئتهم العمرانية والروحية، فالمقابر ليست مجرد مكان للدفن، بل جزء من الذاكرة الجمعية وهويّة المكان، ولذلك فإن تطويرها يحمل أثرًا نفسيًا واجتماعيًا بالغ الأهمية.

حين تتحول المقابر من مناطق مهجورة إلى فضاءات إنسانية آمنة
ولسنوات طويلة، عانت مقابر العايد من الإهمال وتكدس العشوائيات وانتشار مظاهر الانفلات، ما جعلها بيئة طاردة ومرعبة للكثير، خاصة مع غياب الإضاءة وانعدام الخدمات، وهو ما فتح المجال لوجود بعض الخارجين على القانون ومتعاطي المواد المخدرة، ومع ذلك، تحمل هذه المقابر قيمة روحية وتاريخية كبيرة، فهي تضم رفات عدد من الصحابة والتابعين وكبار الجُند الذين مرّوا بالمنطقة في عهد الفتح الإسلامي، ما يضاعف من قدسيتها ومكانتها لدى أهل الكتيبة وكفور العايد.

وفي ظل هذا كله، ظل في ذهن العمدة الحاج طارق الأعصر حلم مختلف؛ حلمٌ بدأ قبل سبع سنوات قبل أن يتجسد اليوم على الأرض عبر مشروع تطوير ضخم غيّر وجه المكان كليًا، وحوّله إلى متنزه آمن وممشى حضاري للعائلات والأطفال، في تجربة فريدة لا تتكرر كثيرًا في الريف المصري.

ويحكي عمدة الكتيبة الحاج طارق الأعصر أن فكرة التطوير لم تكن وليدة اللحظة، بل تعود إلى سبع سنوات مضت، حين بدأ يشعر بأن المنطقة تستحق وضعًا أفضل يليق بتاريخها، وأن الأهالي قادرون على المشاركة في مشروع يغير شكل المقابر بالكامل.

ويقول إن الفكرة عرضها أولًا على شباب القرية والقرى المجاورة ومنطقة العايد، وظلّت تتطور عامًا بعد عام حتى نضجت في الشهور الأخيرة، وبعد سلسلة من المشاورات مع كبار أبناء العمومة، جرى الاتفاق على بدء التنفيذ الفوري، خاصة أن سيدة كبيرة في السن كانت قد أوقفته من قبل قائلة: «نفسي يا حضرة العمدة تعملّي كشاف ينور قدّام المكان اللي هدفن فيه أي قبري»، وهي اللحظة التي وُلدت فيها الشرارة الأولى لهذه الفكرة.

ويشير إلى أن عملية تطوير مقابر العايد جرى الإعداد لها لتتم على ثلاث مراحل متتابعة، بحيث يكتمل الشكل النهائي للمشروع وفق تصور شامل ومدروس.

كانت المرحلة الأولى من المشروع هي الأكثر تأثيرًا، رغم أنها لم تستغرق أكثر من ثلاثة أشهر؛ فخلال تلك الفترة جرى تنفيذ ثلاثين ألف متر من بلاط الإنترلوك لتجهيز الممرات الداخلية والخارجية، ووُضعت كميات ضخمة من التربة الحمراء والرمال وصلت إلى سبعمائة ألف متر لتسوية الأرض ودعم البنية الأساسية.

كما جرى تركيب كشافات إنارة تغطي المقابر بالكامل من جميع الاتجاهات، إلى جانب تركيب ثلاثة عشر كاميرا مراقبة تعمل على مدار الساعة.

ويضيف العمدة طارق أن تركيب أربعين نخلة ملوكي في هذه المرحلة كان خطوة مهمة لإضفاء طابع جمالي وحضاري على المداخل والممشى الذي يمتد لمسافة ألف ومائة وخمسين مترًا، ويجمع بين الإنارة والمراقبة والمظهر الجمالي في منظومة واحدة.

يؤكد الأعصر أن التغيير الحقيقي لم يكن في المظهر وحده، بل في السلوك العام داخل المنطقة، حيث اختفت تمامًا حالات التجمع التي كانت تمثل خطرًا على الأهالي، سواء من الخارجين عن القانون أو متعاطي المواد المخدرة، ويقول إن المشهد تحوّل إلى مساحة آمنة تخرج إليها الأسر والشباب ليلًا ونهارًا لقضاء وقت هادئ، وأصبح المكان الذي كان يمثل خوفًا قديمًا يتحول اليوم إلى متنزه مفتوح لأهالي الكتيبة وبلاد العايد.

ومع اكتمال المرحلة الأولى انطلقت الأعمال في المرحلة الثانية، التي تتضمن إنشاء محور مروري جديد أطلق عليه الأهالي اسم «محور الحاج حسن الأعصر» تكريمًا لوالده الراحل عضو مجلس النواب الأسبق، هذا المحور يبدأ من مدخل الكتيبة أو السعادات ويمر خلف المقابر حتى آخر بيت أو المسجد، بما يحقق سيولة مرورية حقيقية ويمنع التزاحم الذي كان يحدث سابقًا.

وخلال هذه المرحلة أيضًا تمت إزالة اثنتي عشرة مخالفة بناء كانت تشوه المشهد وتعيق الحركة، بينما امتد التطوير بطول يصل إلى كيلومترين ونصف، شمل تسوية الأرض وزراعة الأشجار وإعادة تنظيم مسارات السير.

ويشير العمدة طارق إلى أن المرحلة الثالثة ستكون الأوسع والأكثر تأثيرًا، حيث يجري التخطيط لبناء مسجد كبير، إلى جانب إنشاء دار لتحفيظ القرآن الكريم ستكون الأكبر على مستوى محافظة الشرقية، بجانب دار ضيافة «رحبة » قادرة على استيعاب ما بين ألف إلى ألف وخمسمائة شخص في المناسبات والعزاءات.

ويقول إن أرض المسجد تبرع بها أحد كبار عائلة الأعصر، وإن مدة تنفيذ هذه المرحلة ستتراوح بين ثلاثة إلى ستة أشهر فقط، ما يجعل المشروع كاملًا من أسرع المشروعات التي تمت بالجهود الذاتية في المنطقة.

كما يتضمن المشروع في مراحله الأخيرة زراعة مائتي شجرة «أكاسيا» داخل المقابر، لما تتميز به من ظل واسع وألوان زاهية وقدرتها على تحمل المناخ، إلى جانب استكمال شبكة الإنارة والكاميرات حول المقابر من الداخل والخارج، بما يضمن الأمن الكامل للمكان ويحافظ على قدسيته.

ويؤكد العمدة أن جميع الأعمال تمت بالتنسيق الكامل مع الجهات الرسمية، من مجلس المدينة والمجلس المحلي إلى الكهرباء والطرق والري، مشيرًا إلى أن المشروع يقوم على تضافر الجهود بين الدولة والمجتمع، وبإشراف وتنفيذ من أكبر المكاتب الاستشارية في القاهرة، مقدمًا الشكر إلى اللواء أحمد شاكر، رئيس مجلس ومدينة بلبيس، تقديرًا لدعمه وتعاونه الدائم في تذليل كل العقبات لضمان خروج المشروع في صورته اللائقة.

ويؤكد أنه سيتم تنظيم احتفال رسمي كبير لافتتاح المسجد عقب الانتهاء من مراحل التطوير النهائية، وسيشهد الافتتاح جميع المشاركين في هذا العمل تقديرًا لجهودهم، إلى جانب حضور لفيف من أهالي الكتيبة وكفور العايد، وعدد من كبار الشخصيات الرسمية والشعبية على مستوى الجمهورية.

وفي نهاية حديثه يقول العمدة طارق الأعصر إنه يهدي هذا العمل إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي تقديرًا لجهوده في بناء الجمهورية الجديدة، كما يهديه إلى روح والده المرحوم الحاج حسن الأعصر الذي كان رمزًا للعطاء في القرية، مؤكدًا أن ما حدث في المشهد الحسيني هو نموذج للتعاون بين أبناء العايد الذين قدموا جهدهم ومالهم من أجل مشروع يعيد للمكان روحه، وللأهالي شعورهم بالأمان والانتماء.
