بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

الإسلام احتفى بالحضارة ولم يهدمها

«تحريم الآثار».. بين رحابة الدين وجهل المتشددين

بوابة الوفد الإلكترونية

فى قلب الجيزة، نهض المتحف المصرى الكبير شاهدًا على عبقرية المصرى القديم وإبداع الإنسان المعاصر؛ من تماثيل شاهقة تروى أمجادًا خالدة، إلى مومياواتٍ تهمس بحكايا الملوك الذين حكموا العالم من ضفاف النيل، تمتد أروقة المتحف كجسرٍ بين العصور، يخطو عليها الزائرون من أنحاء العالم مأخوذين بدهشة البدايات وانتصارات اليوم، حيث يتعانق الماضى بالحاضر فى سيمفونية من النور والمجد والخلود.

ولكن، فى لحظة الفخر الوطنى تلك، وبينما كانت العدسات تلتقط فرحة الافتتاح، دوّت أصوات تقول إن تلك التماثيل «أصنام»، وإن زيارة المتحف حرام، وإن الاحتفاء بحضارة الفراعنة تمجيد للكفر، وتحولت لحظات ما بعد افتتاح المتحف المصرى الكبير السبت الماضى إلى جدلٍ محتدمٍ حول سؤال واحد، هل زيارة المتاحف والآثار فعل محرَّم شرعًا؟ أم أنها رحلة فى التاريخ والهوية والعبرة؟

دعوات الهدم والتحريم

بدأت فكرة «تحريم الآثار» مع تصاعد التيار السلفى الجهادى فى مطلع الألفية، ففى عام 2012، دعا السلفى مرجان سالم الجوهرى إلى «تحطيم تمثال أبو الهول والأهرامات»، زاعمًا أنها أصنام يجب إزالتها، على غرار ما فعلت حركة طالبان فى أفغانستان من تحطيم تماثيل بوذا.

تصريحه أحدث صدمة فى المجتمع المصرى، ورد عليه علماء ومؤرخون بأن عمرو بن العاص لم يهدم التماثيل حين فتح مصر، لأن أحدًا لم يكن يعبدها آنذاك، بل كانت آثارًا للعظة والتاريخ.

بعده، طرح بعض الدعاة كـ محمد حسان رأيًا أقل حدّة، مقترحًا «تغطية وجوه التماثيل بالشمع» بحجة تحريم التصوير. غير أن هذا الرأى قوبل بالسخرية، لأنه يتجاهل القيمة التاريخية والعلمية لهذه القطع الأثرية.

ومؤخرًا، أعاد الشيخ مصطفى العدوى الجدل للواجهة، حين قال فى فيديو متداول إن افتتاح المتحف المصرى الكبير «فتنة فى الدين»، ووصف التماثيل بأنها «أصنام محرّمة»، محذرًا المسلمين من «الانجراف فى حب فرعون».

قال العدوي: «أخشى على قلب مسلم أن يتلوث بمحبة فرعون وآله.. لا يجوز الافتخار بحضارة كفرية أهلكها الله».

تصريحه أحدث موجة غضب واسعة، ودفعت السلطات إلى توقيفه لفترة قصيرة، وتم الإفراج عنه لاحقًا، واستمر الجدل مع فتاوى آخرين، كان من أبرزها فتوى مفتى عام المملكة السعودية، الشيخ صالح الفوزان حيث قال: «لا يجوز زيارة الآثار الفرعونية من أجل التنزه أو من أجل تعظيم أصحابها والاعتقاد بأنهم أصحاب حضارة وأصحاب قدرة والثناء عليهم».

للعبرة لا للعبادة

على الجانب المقابل، كان موقف دار الإفتاء المصرية واضحًا منذ السبعينيات، حيث أفتى الإمام جاد الحق على جاد الحق – مفتى مصر الأسبق – بجواز إقامة المتاحف وعرض التماثيل فيها، مؤكدًا أن الإسلام «لا يحرّم الاحتفاظ بالآثار القديمة ولا دراستها»، واستدل بقول الله تعالى: «أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها...» (الحج: 46)، كما شددت دار الإفتاء على أن تكسير التماثيل جريمة شرعًا، ووصفته بأنه «فعل الجهّال والمنحرفين».

كما صرح المفتى السابق شوقى علام فى فتوى عام 2017، بأن التماثيل المعروضة فى المتاحف ليست للتعظيم أو العبادة، بل للتاريخ والتعليم، قائلًا: «يجوز شرعًا إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها؛ لأنها لا يُقصد بها مضاهاة خلق الله ولا العبادة... بل غرض صحيح من العلم والتأريخ».

المتاحف تُعلّم ولا تُحرَّم

وخلال افتتاح المتحف المصرى الكبير مؤخرًا صرح مفتى الجمهورية الحالى الدكتور نظير عياد بأن افتتاح المتحف المصرى الكبير حدث فريد يجسد عظمة مصر وخلود حضارتها وعبقرية أبنائها عبر العصور، ويعد علامة مضيئة فى مسيرة الجمهورية الجديدة ودليلًا على إرادة المصريين وقدرتهم على الإنجاز.

وأوضح فضيلته أن المتحف ليس مجرد صرح أثرى، بل رسالة حضارية خالدة تؤكد أن مصر ستظل قلب التاريخ ومهد الحضارة الإنسانية.

وحول الجدل بشأن التماثيل والآثار، أوضحت دار الإفتاء المصرية أن التماثيل فى عصرنا لا تُقصد بها مضاهاة خلق الله، ويجوز شرعًا إقامة المتاحف وعرض التماثيل فيها لأنها وسيلة للتعلم والعبرة، ولا يجوز تكسيرها كما يفعل بعض الجهال والمتشددين.

وأكد ذلك الدكتور مجدى عاشور، المستشار العلمى السابق للمفتى، قائلًا أن :«زيارة المتاحف ليست محرّمة، بل هى عبادة للعقل حين يقصد بها الإنسان العظة والعبرة.»

وأضاف «عاشور» أن الصحابة حين دخلوا مصر رأوا الأهرامات والآثار ولم يمسوها بسوء، بل تركوها شاهدة على حضارة بشرية عظيمة.

وأشار إلى أن القرآن الكريم أمرنا بالسير فى الأرض والنظر فى أحوال الأمم السابقة، كما قال تعالى: «قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق»، مؤكدًا أن الاستفادة من علوم الحضارات كالفراعنة فى الطب والهندسة والمعرفة مقصد مشروع ومستحب.

وأضاف «عاشور» أن زيارة المتاحف لا تتنافى مع الدين، بل هى وسيلة للتفكر والتعلم، مذكرًا بأن الصحابة حين دخلوا مصر لم يمسّوا آثارها بسوء، مما يدل على إباحة حفظها وصيانتها.

فيما قال الدكتور هشام ربيع، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إن الإسلام لم يأمر بهدم الآثار بل بالحفاظ عليها والاتعاظ منها، وأنها دليل مادى على صدق قصص القرآن وشاهد على تاريخ الإنسانية، فضلًا عن كونها جزءًا من هوية المصريين الحضارية.

وختم تصريحه بالتأكيد على أن الحفاظ على الآثار واجب شرعى ووطنى.

نرى التاريخ ولا نعبده

ولم يتأخر الأزهر الشريف فى الرد، فشيخه الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب أصدر بيانًا هنّأ فيه المصريين بافتتاح المتحف الكبير، مؤكدًا أن الحفاظ على الآثار واجب دينى وإنسانى.

قال «الطيب» إن الإسلام «دعا إلى صون مظاهر الإعمار فى الأرض»، مستشهدًا بالآية الكريمة: «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» (هود: 61).

وأضاف أن الاعتزاز بالحضارة المصرية القديمة لا يتعارض مع العقيدة الإسلامية، لأن «الإسلام لا يحرم الفخر بالهوية ولا يمنع الإعجاب بالعبقرية الإنسانية».

فيما قال الشيخ عبد العزيز النجار، عضو لجنة الفتوى بالأزهر أن الاحتفال بالمتحف الكبير حلال تمامًا، ومن يروّج لغير ذلك إنما يثير البلبلة بين الناس، ويُضعف روح الانتماء، موضحًا: «نحن نذهب لنرى التاريخ، لا لنعبد التماثيل».

وأوضح الدكتور النجار أن المتحف المصرى الكبير إنجاز حضارى عالمى يجسد عبقرية المصريين وعظمة تاريخهم، مشددًا على أن زيارة المتاحف ومشاهدة الآثار والتماثيل لا تُعد من المحرمات، بل هى من باب الإعجاب والعبرة والاعتزاز بحضارة امتدت لأكثر من سبعة آلاف عام.

واختتم الدكتور عبد العزيز النجار تصريحه قائلًا: «العالم أجمع ينظر إلى افتتاح المتحف المصرى الكبير باعتباره حدثًا عالميًا مشرفًا، ومصر كانت وستظل مهد الحضارة وراية التاريخ، ومن واجبنا أن نعتز بها ونروج لجمالها بدلًا من أن نحاربها».

أما الدكتور سعد الدين الهلالى أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، فأوضح أن الفتاوى التى تُحرّم زيارة المتاحف أو الآثار الفرعونية تعكس فهمًا ضيقًا للدين، مؤكدًا أن التماثيل لا تُحرَّم إلا إذا عُبدت من دون الله.

وأشار «الهلالى» إلى أن الإسلام يحث على التأمل فى حضارات الأمم السابقة للعظة والعبرة، مشيرًا إلى أن النبى ﷺ نهى عن هدم «آطام المدينة» لأنها زينتها ومعالمها، وأن الصحابة بعد صلاة الجمعة كانوا يتنزهون بين المعالم القديمة دون أن يُنكر عليهم أحد.

وأكد «الهلالى» أن الحفاظ على التراث سنة نبوية، وأن الإسلام الحقيقى هو «الإسلام الواسع» الذى يقبل التنوع ويحتفى بالإنسان وإبداعه، لا «الإسلام الضيق» الذى يحاصر الجمال باسم الخوف من الشرك.

الأثر والوثن

وأكد الدكتور عبد الرحمن فايد الأستاذ بكلية العلوم الإسلامية، أن هناك فرقًا واضحًا بين الأثر والوثن؛ فالأثر هو ما تركته الأمم السابقة ليكون شاهدًا على حضارتها، أما الوثن فهو ما يُعبد من دون الله اعتقادًا بقدرته على النفع أو الضر.

وأوضح «فايد» أن الآثار تُعرض اليوم من منظور علمى وحضارى لا تعبّدى، فهى توثّق تاريخ الأمم وتُظهر ما بلغته من علمٍ فى الطب والفلك والهندسة، وهى علوم أقرّها الإسلام وحثّ على دراستها لأنها تكشف عن آيات الله فى خلقه.

فيما أوضح الدكتور مجدى عبد الغفار حبيب رئيس قسم الدعوة والثقافة الإسلامية السابق بكلية أصول الدين أن القضية الحقيقية تكمن فى تصحيح المفاهيم الخاطئة، وإزالة الخلط بين التقديس والتدنيس، مؤكدًا أن النبى صلى الله عليه وسلم قدّم أسمى مثال فى الفهم الصحيح حين قال عن جبل أُحد بعد الهزيمة: «أُحُدٌ يحبنا ونحبه»، ولم يأمر بطمسه أو تغييره.

وأشار إلى أن الدفاع عن الحق لا يتحقق إلا بالعلم والمعرفة، مؤكدًا أن من الخطأ أن يتصدر له من لا يعرف الحق أو لا يحسن عرضه.

وشدّد الدكتور عبد الغفار على أن من يمتلك الكلمة يمتلك التأثير، وأن تصويب المفاهيم يجب أن يتم بالحكمة والموعظة الحسنة، مؤكدًا أن الإسلام لم يأتِ لطمس الحضارات بل لتهذيبها واحتوائها، داعيًا إلى نظرة واعية للآثار تقوم على العلم لا على الجهل أو التعصب.