كيف رسَّخ الإسلام مبدأ المواطنة والتسامح قبل 14 قرناً؟
حين هاجر النبي محمد ﷺ إلى المدينة المنورة، وجد مجتمعاً متنوعاً؛ فيه المسلمون من المهاجرين والأنصار، واليهود من قبائل متعددة، إضافة إلى مجموعات قبلية مختلفة.
في هذا المناخ المتشابك، كانت الحاجة ماسّة إلى ميثاق يُنظّم العلاقات، ويضمن الحقوق، ويمنع النزاعات، ويؤسّس لنظام دولة حديث بمعايير عصرها.
هنا وُلدت وثيقة المدينة؛ أول دستور مكتوب في تاريخ الدولة الإسلامية، والتي وصفها كبار المؤرخين—مثل ابن هشام، والطبري، ومحمد حميد الله—بأنها «أول عقد اجتماعي متكامل» في الإسلام، وأول نموذج للمواطنة المشتركة في تاريخ الجزيرة العربية.
أولاً: المواطنة في وثيقة المدينة… مجتمع واحد رغم الاختلاف
«وإنّهم أُمَّةٌ واحدة من دون الناس»
هذا النص المحوري في الوثيقة يعكس طبيعتها الثورية:
- لم تُفرِّق بين مسلمي مهاجرين وأنصار.
- لم تعزل اليهود أو تعتبرهم «رعايا درجة ثانية».
- بل اعتبرت الجميع «أمّة واحدة»، أي: شراكة وطنية، لا تلغي الدين، لكنها تتجاوز الانتماءات القبلية والطائفية.
هذه الصياغة، بحسب المؤرخ محمد حميد الله، تُعدّ أقدم إعلان دستوري للمواطنة المتساوية في مجتمع متعدد الديانات.
ثانياً: الحقوق الأساسية… عدالة وأمان لجميع من يعيش في المدينة
حق الأمن والسلم الاجتماعي
نصّت الوثيقة على أن أفراد المجتمع جميعاً مسؤولون عن حماية بعضهم بعضاً، وأن الاعتداء على أي فرد هو اعتداء على الجماعة بأكملها.
جاء فيها:«وإنّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة».
وهو مبدأ الحماية المشتركة الذي يُشبه ما نعرفه اليوم بـ الأمن الوطني الجامع.
حقّ العدالة وتساوي الواجبات
أكدت الوثيقة على أن الحقوق مرتبطة بالواجبات، وأن لا أحد فوق القانون:
- لا تمييز بسبب الدين.
- لا استثناءات قبلية.
- لا حصانة لطائفة ضد أخرى.
وهذا ما اعتبره الباحث البريطاني مونتجمري وات «أول تطبيق عملي لدولة قانون في الجزيرة العربية».
حرية الدين والاعتقاد
نصّت الوثيقة بوضوح على:«لليهود دينهم وللمسلمين دينهم».
ما يعني أن حرية الاعتقاد مكفولة، وأن الدولة الإسلامية المبكرة لم تُكره أحداً على تغيير دينه، بل ضمنت له حقه، ودياره، وممارسة عبادته.
ثالثاً: التكافل الاجتماعي… قيم تتجاوز الانتماء الديني
تقاسم الحقوق والموارد
لم تكن الوثيقة تنظّم الأمن فقط، بل وضعت قواعد للتكافل والتساند:
- التعاون في مواجهة الأزمات.
- تحمل الديات وفق القدرة.
- منع الظلم والاعتداء.
وهذا ما رآه ابن كثير «أساساً لقيم العدالة الاجتماعية في الإسلام».
رابعاً: التسامح في الإسلام… مبدأ أصيل لا شعار
وثيقة المدينة دليل تاريخي
تُعدّ الوثيقة أقوى شاهد عملي على أن التسامح ليس قيمة طارئة في الإسلام، بل مبدأ تأسيسي قامت عليه أول دولة إسلامية.
فهي:
- ساوت بين الجميع في الأمن.
- صانت الدين والمال والحقوق.
- منعت الإكراه والتمييز.
- واجهت النزاعات بالاتفاق والعهود لا بالقوة.
ولهذا تُستشهد بها اليوم المؤسسات الدينية—ومنها دار الإفتاء المصرية—لتأكيد أن الإسلام دين تعايش لا صراع، سلام لا إقصاء، مواطنة لا طائفية.
خامساً: لماذا تُعدّ وثيقة المدينة نموذجاً يصلح لعصرنا؟
1. لأنها تُقدّم صيغة للتنوع داخل وطن واحد
مجتمع المدينة كان يشبه إلى حد كبير المجتمعات الحديثة من حيث التعدد الديني والثقافي.
2. لأنها تُعلّم أن الدولة تُبنى بالعقد لا بالقوة
الميثاق كان اتفاقاً اجتماعياً، وليس فرضاً أحادياً.
3. لأنها تُقدّم مرجعاً تاريخياً لمواجهة التطرف
كل جماعات العنف التي تدّعي احتكار «الفهم الصحيح» تتجاهل هذه الوثيقة التي تنقض منهجها بالكامل.