جمعة يوضح تفصيلًا.. البدعة بين الفهم الصحيح وسوء الاستخدام
يُعدّ مفهوم «البدعة» من أكثر المصطلحات التي تعرّضت للتحريف وسوء الفهم في العقود الأخيرة، حتى صار كثير من الناس يتهمون بعضهم البعض بالابتداع دون علم.
قدّم الدكتور علي جمعة—مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء—شرحاً دقيقاً لمعنى البدعة، لغوياً وشرعياً، مستعرضاً أقوال الأئمة ومقاصد الشريعة، ومبيّناً كيف أسهم الجهل بهذا المفهوم في تمزيق المجتمعات المسلمة.
أولاً: البدعة في اللغة… الجِدّة لا الذم
يفصِّل جمعة في الأصل اللغوي للبدعة، فيقول إنها تعني:
1. الحدث أو الأمر المُستحدث
- «البِدعة كل مُحدَثة» كما قال ابن السِّكِّيت.
- وتُستعمل كثيراً في الذم عرفاً، لكنها لغوياً لا تقتضي الذم.
2. الإتيان بشيء على غير مثال سابق
- «فلان بدع في هذا الأمر» أي سابق فيه لا يُضاهيه أحد.
- «أبدعت الشيء» أي اخترعته من غير وجود نموذج قبلَه، كما ورد في لسان العرب.
3. ورود لفظها في القرآن
استشهد بقوله تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}
أي أحدثوها من غير أصل.
بهذا يتضح أن البدعة في اللغة هي كل جديد… لا حسن ولا سيء بذاته.
ثانياً: البدعة في الشرع… مسلكان حاسمان
يستعرض د. علي جمعة اتجاهين رئيسيين عند العلماء في تحديد مفهوم البدعة الشرعية:
المسلك الأول: مسلك العز بن عبد السلام – البدعة أحكام خمسة
يرى سلطان العلماء العز بن عبد السلام أن كل ما لم يكن في زمن النبي ﷺ يُسمّى بدعة من حيث عدم وجوده، لكنه ينقسم إلى خمسة أقسام:
- بدعة واجبة
- بدعة محرّمة
- بدعة مندوبة
- بدعة مكروهة
- بدعة مباحة
والضابط:«تُعرض البدعة على قواعد الشريعة»
فما وافق أصل الشرع كان محموداً، وما خالفه كان مذموماً.
وقد أيّد ذلك الإمام النووي قائلاً:«منها ما يكون حسناً، ومنها ما يكون بخلاف ذلك».
المسلك الثاني: مسلك ابن رجب الحنبلي – البدعة المذمومة فقط
في هذا المسلك تُحصر البدعة الشرعية في النوع المذموم حصراً، وهو ما:
- لا أصل له في الشريعة،
- ولا يدل عليه دليل عام أو خاص.
أما ما له أصل، وإن لم يكن موجوداً زمن النبي، فهو ليس بدعة شرعية وإن كان بدعة لغوية.
يقول ابن رجب:«ما أُحدث مما ليس له أصل في الشريعة فهو البدعة».
ثالثاً: الاتفاق بين المسلكين… والاختلاف في الصياغة فقط
يؤكد د. علي جمعة أن الخلاف بين المسلكين لفظي لا جوهري:
- فكلاهما متفق على أن البدعة المذمومة هي ما لا أصل لها في الشرع.
- وأن ما وافق الشريعة لا يُذم، وإن سُمي «بدعة حسنة» أو «محدثة غير مذمومة».
وهذا هو المقصود بحديث النبي ﷺ:«كل بدعة ضلالة» أي: كل بدعة ضلالة ممّا خالف الشرع، لا مطلق كل جديد.
رابعاً: أقوال الأئمة… الإجماع العملي على تقسيم البدعة
يعرض جمعة أقوال كبار الأئمة التي تُثبت أن علماء الأمة لم يحصروا البدعة في التحريم فقط، بل قسّموها وأجازوا منها ما وافق الأصول:
الإمام الشافعي«المحدثات من الأمور ضربان… ما خالف فهو بدعة ضلالة، وما وافق فهو محدثة غير مذمومة».
الإمام الغزالي«ليس كل ما أُبدع منهياً عنه، بل المنهي ما خالف سنة ثابتة».
الإمام النووي
نقل تقسيم البدعة إلى الأحكام الخمسة.
ابن الأثير«البدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلال».
ابن منظور (لسان العرب)
فصّل القول وأكّد أن البدعة الحسنة سنة في حقيقتها، مثل جمع عمر الناس على التراويح.
خامساً: العلماء عبر المذاهب… اتفاق واسع لا يعرفه كثير من الناس
بيّن د. علي جمعة أن التقسيم إلى بدعة:
- واجبة
- محرّمة
- مندوبة
- مكروهة
- مباحة
هو اتجاه جمهور العلماء من المالكية والحنفية والحنابلة والظاهرية.
ومنهم:
- القرافي
- الزرقاني
- ابن عابدين
- ابن الجوزي
- ابن حزم
- أبو شامة
وغيرهم.
سادساً: أمثلة واقعية توضّح معنى البدعة وأنواعها
1. بدعة واجبة
كعلوم النحو والضبط لحفظ القرآن، وهي واجبة لأنها مما لا يتم الواجب إلا به.
2. بدعة محرّمة
كالفرق المنحرفة: القدرية والجبرية والخوارج.
3. بدعة مندوبة
إحداث المدارس، بناء القناطر، وصلاة التراويح جماعة.
4. بدعة مكروهة
زخرفة المساجد وتزويق المصاحف.
5. بدعة مباحة
المصافحة بعد الصلوات، أو التوسع في المأكل والملبس.
سابعاً: أدلّة قوية استخدمها العلماء لإثبات هذا التقسيم
- قول عمر بن الخطاب في التراويح: «نعمت البدعة هذه».
- قول ابن عمر عن صلاة الضحى جماعة: «بدعة»، أي جديدة حسنة.
- حديث النبي ﷺ:«من سنَّ سنة حسنة فله أجرها… ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها…».
وهذه الأدلة تؤكّد أن البدعة ليست كلها ضلالاً، بل يُنظر إلى موافقتها للشرع.
ثامناً: كيف أثّر الجهل بمفهوم البدعة على الفكر الإسلامي المعاصر؟
يحذر د. علي جمعة من انتشار مفهوم خاطئ يجعل بعض الناس يكفّرون أو يبدّعون الآخرين دون علم.
ويقول إن الجهل بالبدعة أدى إلى:
- إساءة الظن بالمسلمين،
- تقسيم المجتمع،
- انتشار الغلو،
- احتكار «الصواب» في يد فئة ضيقة.
ويؤكد أن استعادة الفهم الحقيقي للبدعة يعيد التوازن إلى العقل المسلم، ويمنع إساءة استخدام النصوص الشرعية.