هوية مصر التى لا يُمكن العبث بها
صفوف وراء أخرى، رجالًا ونساءً وأطفالًا وعائلات من مختلف أنحاء مصر وقفوا مُحتشدين لزيارة المتحف المصرى الكبير. أسعدنا المشهد الرائع، وأبهجنا أن نسمع عبارة «كامل العدد» متكررة يوما بعد آخر نتيجة نفاد تذاكر دخول المتحف محليًا.
وهذا فى تصورى، دليل واضح على فشل كافة الحملات السطحية التى أطلقها الجهلاء، وبعض مَن ينتمون للتيارات الدينية لمقاطعة الحضارة المصرية القديمة، تحت زعم كونها حضارة أوثان.
ولا شك أن رد الفعل الشعبى لهذه الحملات يعكس بشكل واضح وعى المصريين بتهافت كافة دعوات جماعة الإخوان وغيرها من القوى غير الوطنية لضرب الاقتصاد المصرى، وبث روح الإحباط بين الناس، والتقليل من الإنجازت العظيمة. كما يعكس فى الوقت ذاته اعتزاز المجتمع المصرى بمختلف فئاته، بعظمة ورُقى وتفرد الحضارة المصرية القديمة، تلك التى قدمت للعالم كله أعظم القيم والمبادئ.
فعلى مدى قرنين من الزمن تطور فيها علم المصريات، وشغلت خلالهما الحضارة المصرية القديمة طلاب المعرفة وباحثيها فى العالم شرقًا وغربًا، كان من الواضح لكل صاحب رأى أن الحضارة المصرية القديمة جزء أصيل من هويتنا المصرية، وأنه مع كل التقدير والاحترام للحضارة العربية الإسلامية، فإنها لم تكن أبدًا بديلًا للحضارة المصرية القديمة، وإنما كانت مُكملة لها.
لذا، فإن الهوية المصرية الحقيقية تستند على دعائم متعددة تشمل حضارات وثقافات متنوعة استفادت مصر من قيم كل منها، واستخلصت إيجابياتها، واستوعبتها فى تكوينها. وكما كتب المفكر الراحل الدكتور ميلاد حنا فى كتابه الفذ «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية»، والذى صدر عام 1989، فإن الشخصية المصرية لم تكن يومًا شخصية أحادية أو بسيطة وإنما هى شخصية متراكمة الخبرات، متعددة السمات، وقد تكونت عبر التاريخ استنادا إلى سبعة أعمدة متكاملة حققت معًا التنوع والتميزوالريادة. ففى تصوره، فإن الحضارة الفرعونية مثلًا حققت للشخصية المصرية الاستقرار والواقعية واحترام العمل والنظام، بينما تركت الحضارة اليونانية الرومانية آثارها على المصريين فى اعتماد العقلانية والمنطق. كذلك فقد رسخت الحضارة القبطية فى المصريين سمة الزهد والتسامح والمحبة، وعمقت الحضارة العربية الإسلامية قيم العدل والرحمة والتكافل، فضلًا عن ذلك تأثرت مصر بمحيطها المتوسط فى انفتاحها على الآخرين، وبمحيطها الإفريقى دفئًا إنسانيًا وتعاونًا، وبقربها من أوروبا اهتمامًا بالحداثة والعلوم.
وبعيدًا عن الاتفاق أو الاختلاف فى تفاصيل ما رآه الدكتور ميلاد حنا حول مصادر تكوين الشخصية المصرية، فإن هناك اتفاقًا عامًا بأن الهوية المصرية قائمة على التعددية، ومتصفة بالوسطية، ومتفوقة بالانفتاح على الآخرين، وأنه لا يُمكن لأى قوى أو تيار العبث بهذه الهوية.
وفى رأيى فقد مثلت هوية المصريين سدًا منيعًا أمام دعوات الاستقطاب ومحاولات التغريب، ولا شك أن الشعب المصرى يُدرك ذلك لذا فإنه يعتصم بهويته، ويعتز بها، ليؤكد للعالم كله أنه شعب مُتحضر، مُتمسك بجذوره، ومؤمن بقدرته على صناعة الأمل، وبناء المستقبل.
وسلامٌ على الأمة المصرية