«النداهة»
مغامرة غير شرعية تقضى على الشباب
شباب مصر يغامرون بحياتهم بحثاً عن لقمة العيش فى الخارج
أمهات يفقدن أبناءهن فى رحلة البحث عن المال
«الخارجية»: استراتيجية شاملة لمكافحة الهجرة غير الشرعية وحماية الشباب
الموت والدين يلاحقان أسر المهاجرين غير الشرعيين
قدمن أبناءهن قرابين على مذبح حلم الثراء السريع، فمع بلوغ أولادهن سن الرشد، بدأن سرد قصص بطولات شباب عادوا من الخارج محملين بالأموال، فكبر الحلم فى عقول المراهقين، حتى إذا بلغ أحدهم السادسة عشرة، راح يبحث عن طريق للهجرة، غير آبه بحياته فى سبيل تحقيق أحلام أسرته ببناء منزل أو متطلبات زواج. هناك، تبتلعه «نداهة» الغربة، فيموت غرقاً، أو يصل إلى الشاطئ الآخر ليفارق الحياة فى حادث، وتبدأ رحلة البحث عن جثته.
تقارير الهجرة
«أنت راجل.. ابنى نفسك وسافر».. جملة تتردد فى بيوت الصعيد والوجه البحرى، كانت شرارة لمآسٍ كثيرة، إذ تحولت الأحلام إلى كوابيس أحرقت قلوب الآباء، بعد أسابيع طويلة من البحث عن فلذات أكبادهم بين أمواج البحر أو على حدود الغربة.
ووفق تقارير المنظمة الدولية للهجرة، كانت الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023 الأكثر دموية منذ 6 أعوام، إذ فقد 411 مهاجراً حياتهم فى المتوسط، فيما استقبلت إيطاليا أكثر من 60 ألف مهاجر غير شرعى، مقارنة بـ27 ألفاً فى 2022. وقدر عدد المهاجرين عبر المتوسط بأكثر من 82 ألفاً خلال العام ذاته.
ومنذ 2015، أنقذ نحو 300 ألف شخص حاولوا عبور البحر الأبيض المتوسط، بحسب وكالة خفر السواحل الأوروبية. هذه أرقام صادمة، تجسد فصول مسلسل الموت المستمر، حيث لا يزال الشباب يهرولون نحو المجهول، ظانين أن الغربة هى «طاقة القدر».
يبذل بدر عبدالعاطى، وزير الخارجية والهجرة وشئون المصريين بالخارج، جهوداً كبيرة فى مواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعية من خلال تبنى رؤية شاملة ترتكز على معالجة الأسباب الجذرية للظاهرة، مثل ضعف فرص العمل والفقر وغياب الوعى بمخاطر الهجرة غير القانونية. ويؤكد الوزير أن التعامل مع هذه القضية لا يمكن أن يكون أمنياً فقط، بل يجب أن يتكامل مع التنمية الاجتماعية والاقتصادية وفتح مسارات قانونية وآمنة للهجرة، إلى جانب رفع الوعى لدى الشباب وتشجيع العودة الطوعية لمن خاضوا تجارب الهجرة غير الشرعية.
أطلقت الوزارة فى عهده «الخطة الوطنية للعمل لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية 2024–2026»، استكمالاً للاستراتيجية الممتدة من عام 2016 حتى 2026، وتهدف إلى بناء منظومة متكاملة تتعاون فيها الدولة مع المؤسسات الدولية والمجتمع المدنى.
كما قادت مصر خلال فترة توليه عدداً من الاجتماعات الإقليمية والدولية، منها استضافة الاجتماع الوزارى لعملية الخرطوم لمكافحة تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر، بمشاركة أكثر من خمسين دولة من ضفتى البحر المتوسط والقرن الإفريقى، فى إطار تعزيز التعاون الدولى فى هذا الملف.
ابنى ضاع
لم تتمالك «نجلاء.ع» نفسها وهى تروى قصة ابنها الذى ابتلعه البحر المتوسط، وقالت بصوت متهدج وبكاء فى مكالمة هاتفية لـ«الوفد»، إنها تشعر بأنها كانت السبب فى موت فلذة كبدها.
«ابنى ضاع فى طمعى».. تروى السيدة الخمسينية أن ابنها «محمود» كان يسمعها دائماً وهى تتحدث بإعجاب عن شباب قريتها فى محافظة المنيا الذين سافروا للعمل خارج مصر وجنوا أموالاً طائلة.
كبر الحلم فى قلب «محمود»، وما إن بلغ السادسة عشرة حتى بدأ يبحث عن فرصة للهجرة إلى إيطاليا، ونسق مع مجموعة من الشباب للسفر عن طريق البحر.
تقول الأم بصوت مكسور: جاءنى يوماً وقال «يا أمى أنا اتفقت مع شباب وهنسافر لإيطاليا بس محتاج 9 آلاف جنيه».
شعرت حينها بفخر وفرحة عارمة، فأحضرت له المبلغ المطلوب وقالت: «كده يا ابنى هحس إنى ربيت راجل».
وفى ظلام الليل، بينما الجميع نائم، خرج ابنها الوحيد مودعاً إياها بابتسامة، وقال لها: «هحقق حلمك يا أمى».
عادت الأم إلى غرفتها تسبح فى أحلام وردية عن مستقبل ميسور، ومنزل جديد، وزواج كريم لابنها الوحيد.
بعد أيام، حاولت التواصل معه، لكن الهاتف أغلق، لتظن فى البداية أن السبب ضعف الشبكة.
مرت الساعات والأيام، والرقم ما زال خارج الخدمة، حتى طرق بابها شيخ القرية قائلاً إن القارب الذى استقله ابنها غرق فى البحر، وأن الجثث التى انتشلت لم يكن من بينها ابنها.
صرخت الأم قائلة: «أنا السبب.. أنا اللى موت ابنى»، ومنذ سبع سنوات لم تعثر على جثته ولا على خبر يطمئنها، وتقول اليوم: «كل اللى باتمناه أشوف جثته وادفنها بإيدى».
«الموج الخاطف»
تروى «سعاد.م» قصتها الموجعة وهى تستعيد آخر أيامها مع ابنها «أحمد» الذى أنهى دراسته فى دبلوم الزراعة عام 2011، ولم يجد عملاً، فانضم إلى مجموعة من 18 شاباً قرروا الهجرة إلى اليونان بحثاً عن رزق كريم.
كانت الأم، التى فقدت زوجها مبكراً، ترى فى ابنها الأمل الأخير بعد أن زوجت أشقاءه الثلاثة بشقائها. لكنها، كغيرها من نساء قريتها فى سوهاج، شجعته على السفر قائلة: «البلد مفيهاش لقمة عيش يا ابنى».
جمعت له «65 ألف جنيه» من أقاربها ومعارفها، وأرسلتها له ليستعد للسفر، بعد رحيله بأيام، جاءها الخبر المشؤوم: المركب غرق فى عرض البحر، وابنها كان بين المفقودين.
تحول الفرح إلى دين ودموع، وأصبحت مدينة بمبلغ السفر، وتقول: «موت وخراب ديار»، فقد خسرت ابنها وغرقت فى الديون، حتى تدخل أهل القرية وسددوا عنها الدين لئلا تحبس.
تعيش «سعاد» اليوم وحيدة بعد أن انشغل أبناؤها الآخرون بحياتهم، وتقول بصوت يملؤه الوجع: «كان هو الونس.. دلوقتى البيت فاضى والليل طويل، وكل ما البحر يجى فى الأخبار بحس إنه بينادينى باسمه».
مشاعر موجعة
قالت استشارى العلاقات الأسرية، الدكتورة نادية جمال، إن الحيرة التى تنتاب الأم عندما يكون الابن عدى بالمراحل الدراسية وتمرس فى أكتر من مهنة ولساعات كتير، ولكن ما زال لا يقدر على تحمل احتياجاته اليومية والحياتية وحلم الارتباط الذى لا يختلف عليه أى شاب ولا فرحة أى أم ببداية حياة خاصة بابنها وفرحه وصول حفيد لها، من هنا اقتنعت الأم أو أجبرت على الموافقة لسفر ابنها بالطريقة غير المشروعة لكى يبنى حياته.
وأضافت استشارى العلاقات الأسرية، أن الأم فى هذه الحالة تكون فى منتهى الحزن لسفره وبعده عنها وايضاً التوتر والأفكار المخيفة معاها طول الوقت وتبدأ حاله من الاكتئاب وعدم النوم والخوف من اى خبر تقرأه أو تعرفه عن رحلة المجهول.
عقوبة جلد الذات
وتابعت: دايماً تحمل نفسها مسئولية أنها وافقت وشاركت فى قرار سفره بالطريقة دى وهنا بقى جلد الذات والتأنيب والحوار مع النفس تكون طريقة تفكيرها ومن هنا يبدأ يظهر التعب الجسدى؛ الإصابة بالضغط والسكر وأحيانا أمراض القلب وهده نتيجة الحالة النفسية اللى وصلت لها.
وتستكمل خبيرة العلاقات الأسرية أن عندما تعرف الأم خبر وفاة ابنها الذى كان حلمه أن يفرحها به وببيته وأولاده، تحصل هنا الصدمة وأحياناً، إنها تنكر أو تصدق، وهذا يكون لفترة حسب تحملها ومقدرتها على استيعاب الخبر، ولكن مجرد أنها تدفن ابنها تبدأ تهدى مع الوقت بزيارة قبره وقراءة القرآن.
ونوهت استشارى العلاقات الأسرية بالأم التى فقدت ابنها حتى بعد ما توفى وأنها تدفنه وتعرف مكان، وهذا بقى مستحيلاً، هنا الأم تحتاج لوقت طويل ودعم نفسى من الأهل والمقربين لمساعدتها على تفهم الوضع، ولكن تصاب بالحزن الشديد والاكتئاب وفقدان الثقة بقراراتها والعزلة وجلد الذات والصمت أحياناً والخوف الشديد.
الناحية القانونية
قال أستاذ القانون الدولى، الدكتور أحمد القرمانى، إن الظروف الاقتصادية حينما تشتد تكون دافعاً للشباب ولكل فرد لا يجد استقراراً اقتصادياً أن يخاطر بروحه وهناك من الأشخاص من يصور لهم خيالهم أن الهجرة للخارج حل سحرى للعيش الأمن والغناء السريع.
وأضاف أستاذ القانون الدولى، أنه رغم تشديد القانون بوضع عقوبات متنوعة، وقاسية، إلا أن الهجرة غير الشرعية فى ازدياد رغم المخاطرة بالروح.
وتابع أستاذ القانون الدولى: تم إصدار القانون ٨٢ لسنة ٢٠١٦ بشأن مكافحة الهجرة غير الشرعية لكبح جماع الجريمة عابرة الحدود وتضيق الخناق على الجماعات الإجرامية المنظمة التى تستغل حاجة المهاجرين للعلم والعيش خارج أوطانهم.
وأشار أستاذ القانون الدولى إلى تدرج المشرع فى العقوبات المرصودة لمافيا الهجرة غير الشرعية ابتداء من عقوبة السجن إلى السجن المؤبد فضلاً عن المصادرة وفى سبيل حرص الدولة المصرية على كبح جماح الهجرة غير الشرعية فقد أنشأ اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر وتتبع السيد رئيس مجلس الوزراء وتختص تلك اللجنة بالتنسيق على المستوى الوطنى والدولى بين السياسات والخطط والبرامج الموضوعة لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية وتقديم أوجه الرعاية والخدمات للمهاجرين المهربين وحماية الشهود فى إطار اتفاقيات التعاون بين الدول.
وأوضح «القرمانى» تأسيس صندوق مكافحة الهجرة غير الشرعية وحماية المهاجرين والشهود وله شخصية اعتبارية مستقلة وتتكون موارده مما تخصصه له الدولة فى الموازنة العامة، وما يعقده من قروض وما يتقبله من تبرعات ومنح وهبات من الجهات الوطنية أو الأجنبية.
وأشار «القرمانى» إلى أن الوضع يظل فى إطار تعاون الدول على التنمية والتعمير للنهوض بحياة المواطنين فى كل دول العالم أما الواقع فهو أن الدول فى حالة أزمات اقتصادية ووبائية، ويعنى ذلك أن معدل الجرائم فى ازدياد بحثاً عن سبل العيش ولو كلف ذلك الإنسان حياته.

