هل الموت الدماغي يُعد وفاة شرعًا؟
أثار سؤال ورد إلى الدكتور عطية لاشين، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر الشريف، نقاشًا فقهيًا دقيقًا حول مسألة التمييز بين الموت الدماغي والموت الحقيقي، وما يترتب على كلٍّ منهما من أحكام شرعية تتعلق بالميراث، والقصاص، والدية، وبقاء العلاقة الزوجية، وسائر المعاملات.
جاء السؤال الذي نُشر عبر الصفحة الرسمية للدكتور لاشين على موقع “فيسبوك”، نصه:“هل الأحكام المترتبة على الموت تترتب على الموت الدماغي أم الموت القلبي؟”
قائلاً:“الحمد لله رب العالمين، قال تعالى: (والذي يميتني ثم يحيين)، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إن للموت لسكرات).”
تعريف الوفاة في الفقه والطب
فأجاب لاشين أن الوفاة تُعرف من منظورين مختلفين:
الأول: الوفاة الدماغية، وهي توقف المخ توقفًا تامًا لا رجعة فيه، أي تلف خلايا المخ بشكل كامل.
الثاني: الوفاة القلبية، وهي توقف القلب عن النبض، وتوقف الدورة الدموية بصورة نهائية.
وبيّن أن الحالة الأولى – أي الموت الدماغي – قد تسمح للأطباء بانتزاع بعض الأعضاء الصالحة للزراعة قبل توقف جميع وظائف الجسد، للانتفاع بها في إنقاذ حياة آخرين.
أما الحالة الثانية – توقف القلب – فهي اللحظة التي تفقد فيها الأعضاء صلاحيتها الطبية، وتبدأ مظاهر التحلل الجسدي، وعندها يُعد الإنسان ميتًا حقيقة، وتنطبق عليه أحكام الشريعة.
الموت في اللغة والشرع
قال الدكتور لاشين إن الموت في اللغة هو مفارقة الحياة، واستشهد بقول الله تعالى:“ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت” [إبراهيم: 17]،موضحًا أن المقصود في الآية هو مجيء أسباب الموت لا الموت نفسه.
وأشار إلى أن الموت الشرعي لا يتحقق إلا بمفارقة الروح للجسد، أي بانتهاء كل مظاهر الحياة من تنفس، ونبض، وتماسك عضلات، وفقدان الإحساس تمامًا، عندها فقط يصدق عليه وصف الميت، وتبدأ أحكام الشريعة المترتبة على الوفاة.
القرآن والسنة يصفان مراحل الموت بدقة
استعرض أستاذ الفقه المقارن المراحل التي تمر بها النفس الإنسانية قبل الموت، كما وردت في القرآن والسنة، موضحًا أن الموت ليس حدثًا لحظيًا بل عملية تدريجية لها علامات ومقدمات.
غشيه الموت: وهي المرحلة التي يُشخص فيها البصر ويفقد الإنسان حركته وشعوره، قال تعالى:“ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت” [محمد: 20].
حضور الموت: وهي ساعة الاحتضار أو الغرغرة، التي قال عنها الله تعالى:“وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن” [النساء: 18].
وفيها قال النبي ﷺ:“إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر” (رواه الترمذي).
سكرة الموت: وهي أشد مراحل الموت وأصعبها، قال تعالى:“وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد” [ق: 19].وروت السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال:“إن للموت سكرات” (متفق عليه).
وأكد الدكتور لاشين أن هذه المراحل تسبق المفارقة الكاملة للروح، وهي التي تميز بين الحياة والموت الحقيقي في المنظور الإسلامي.
الأحكام الشرعية لا تترتب إلا بعد تحقق الموت الكامل
اختتم الدكتور عطية لاشين توضيحه مؤكدًا أن الأحكام الشرعية المترتبة على الوفاة – مثل:
تقسيم الميراث، انتهاء العلاقة الزوجية (الطلاق أو البينونة)، سقوط التكاليف الشرعية، القصاص أو الدية، لا تُطبَّق إلا عند تحقق الموت الحقيقي الكامل، وليس عند مجرد إعلان الوفاة الدماغية.
وقال فضيلته:“الموت الذي تترتب عليه الأحكام الشرعية هو الذي تتحقق فيه مفارقة الروح للجسد، بحيث تتوقف جميع أجهزة الجسد وتنتهي مظاهر الحياة من تنفسٍ ونبضٍ وتفاعلٍ عضلي، وعندها فقط يُحكم بالوفاة شرعًا.”
وشدد على أن الموت الإكلينيكي أو الدماغي لا يُعتد به شرعًا من حيث الأحكام؛ لأنه لا يعني زوال الحياة تمامًا، إذ قد تبقى بعض الأعضاء حية تعمل بالأجهزة الداعمة.
رؤية شرعية وسطية بين الطب والدين
أوضح الدكتور لاشين أن الإسلام لا يعارض العلم الحديث، بل يُقدّره حين يُستخدم في خدمة الحياة، مبينًا أن الموت الدماغي له دلالته الطبية والإنسانية في مجال التبرع بالأعضاء، لكنه لا يمكن اعتباره وفاة شرعية تامة ما لم تنفصل الروح عن الجسد وتنعدم جميع مظاهر الحياة.
وأكد أن الإسلام دين يحترم النفس البشرية، لقوله تعالى:“ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا” [المائدة: 32]،
لكنه في الوقت ذاته يحفظ حرمة الميت ويحظر إعلان وفاته إلا بيقينٍ تام.