بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

الموت بين يد القدر والخوارزميات

في أحد مستشفيات الولايات المتحدة، لم يعد الطبيب ينظر إلى شاشة تعرض مؤشرات المريض الحيوية، بل إلى توقع دقيق لما تبقى من عمر هذا الإنسان. المشهد الذي كنا نراه في أفلام الخيال العلمي، أصبح اليوم جزءاً من الواقع الطبي في مستشفيات أمريكا وبريطانيا والصين. إنها نماذج التنبؤ بالوفاة (Mortality Prediction Models) التي تحلل بيانات المرضى من أشعة وضغط دم وتنفس وأدوية، لترسم للطبيب صورة رياضية باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لفرض بقاء المريض على قيد الحياة.

تشير الأبحاث الحديثة المنشورة في  "Nature Medicine" إلى أن هذه النماذج تمكنت من التنبؤ بالوفاة بدقة مذهلة بلغت 90% في بعض الحالات المزمنة. وتؤكد المؤسسات الطبية أن هذه التقنيات تهدف إلى تحسين جودة الرعاية وتحديد المرضى الأكثر احتياجاً للتدخل العاجل.

لكن وراء هذا التطور المخيف، يبرز سؤال وجودي عميق: هل يحق للإنسان أن يعرف موعد وفاته المحتمل؟ أم أننا نتجاوز بذلك حدود الإنسان ونتدخل في منطقة لا ينبغي اقتحامها، ونقلب الكون بالتدخل في الحكمة الإلهية التي قصدت إخفاء موعد وكيفية الوفاة عن الإنسان؟

يدخلنا هذا النقاش إلى عتبة جديدة من التفاعل بين الإنسان والآلة، حيث لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة، بل تحول إلى شريك في تشكيل إدراكنا لذواتنا. يلاحظ الباحثون أن تفاعلنا مع الروبوتات المؤنسنة (Humanoid Robots ) بدأ يغير من مفهومنا للحدود بين الإنسان والآلة. فالقدرة على محاكاة السلوك البشري لم تعد تقتصر على الجانب الوظيفي، بل تمتد إلى خلق انطباع بالوعي والنوايا، مما يدفعنا إلى إعادة النظر في تعريفنا الأساسي للإنسانية وهل يتحمل الذكاء الاصطناعي المسؤولية والأخلاقية لأي أخطاء في العمليات التي يجريها.

تخيل معي إنسانا يسمع من طبيبه أن الذكاء الاصطناعي يتوقع أن ما بقي من عمره لا يتجاوز شهراً. كيف سيقضي هذه الأسابيع القليلة؟ هل ستتحول إلى هدية ثمينة يعانق فيها كل لحظة، أم إلى عبء ثقيل يسقط فيه في هاوية اليأس؟ أم محاولات لارتكاب جرائم يعلم أنه لن يحاسب عليها في حياته على الأرض؟ فهناك بعض النفوس البشرية يسيطر عليها الجانب الشرير فتخيل ماذا هي فاعلة عندما تعلم بموعد وفاتها؟

وهنا نرى الانقسام في المجتمعات الطبية حول معضلة أخلاقية حادة بين المنفعة السريرية للتنبؤ والتداعيات النفسية للمعلومة. من ناحية، تسمح هذه التقنيات للفرق الطبية بتوجيه رعايتها نحو الحالات الأكثر خطورة. ومن ناحية أخرى، يحذر علماء النفس من أن إخبار المريض بموعد وفاته المحتمل قد يدمر إرادته في الحياة.


رغم التقدم التقني المذهل، حيث إن التكنولوجيا تعرف عنا أكثر من أي وقت مضى، لكنها لا تزال عاجزة عن فهم قيمة الروح. الخوارزميات تحسب نبض القلب، لكنها لا تستوعب معنى الحياة، والعلاقات البشرية المعقدة،  كما يلاحظ أحد المحللين، فإن الذكاء الاصطناعي يقدم شكلاً جديداً من الإبداع، لكنه يفتقر إلى النية والروح التي تميز الإبداع الإنساني الأصيل.

يرى الدكتور إبراهيم كراش في كتابه "الفلسفة في الذكاء الاصطناعي" أن الذكاء الاصطناعي ليس مشروعاً علمياً منفصلاً عن الفلسفة، بل هو استئناف لسؤال الوعي في صورته الأكثر جرأة: هل يمكن إعادة إنتاج العقل؟ وهل يمكن للآلة أن تفكر بطريقة تتجاوز المحاكاة؟
ويحذر  كراش من أن تحويل الفكر إلى رموز قابلة للترميز يعني فقداناً لجزء جوهري من التجربة الإنسانية التي تصنع المعنى. فالفهم الحقيقي - في تصوره - ليس مجرد عملية حسابية، بل هو علاقة حية بين الذات والعالم.

وهذا للتطور التكنولوجي ، يذكرنا بجدل فلسفي قديم متجدد حول القضاء والقدر والحرية الإنسانية. فبينما تؤكد الفلسفات الدينية أن الموت ليس نهاية تامة وأنه قدر غير معلوم، يرى الفلاسفة الوجوديون أن الموت هو الحقيقة الأساسية للبشرية ولا وجود للقدر بل الإنسان له الحرية المطلقة و هو المسؤول الوحيد عن قرارات حياته. في ظل هذه الرؤى المتباينة، يبرز سؤال جوهري: هل يحول التوقع الرياضي للموت من قدريته إلى مجرد إحصائية؟

ما نعيشه اليوم ليس مجرد تطور تقني، بل تحول جذري في رؤيتنا للعالم ولأنفسنا. الذكاء الاصطناعي في مجال التنبؤ بالوفاة يمثل أداة طبية قوية، لكنه يبقى عاجزاً عن استيعاب الأبعاد الوجدانية والروحية للتجربة الإنسانية. الخطر الحقيقي لا يكمن في التكنولوجيا نفسها، بل في أن نبدأ في معاملة الحياة كمجرد إحصائية، وأن ننسى أنه وراء كل معادلة رقمية، هناك روح إنسانية لا يمكن اختزالها في أرقام.

وهنا ساطرح سؤال للنقاش .. لو أن الذكاء الاصطناعي توقع أن نهاية حياتك تقترب، هل تفضل معرفة موعد رحيلك المحتمل أم تفضل البقاء في حالة من المجهول؟