هوامش
استغلوا الشخصية المصرية المتفردة
افتتاح المتحف المصرى الكبير لم يكن مجرد حدث ثقافى أو احتفالية رسمية لصرح أثرى ضخم، بل تحوّل إلى لحظة وطنية جامعة جسدتها قدرة المصريين على تحويل المناسبات الكبرى إلى حالة وجدانية تتجاوز حدود التنظيم الرسمى والاحتفاء لتعبّر عن عمق الانتماء الوطنى وارتباط هذا الشعب بجذوره الحضارية الممتدة عبر آلاف السنين، ليؤكدوا أن الحضارة ليست ماضياً يُروى، بل روح تسكنهم.
فمع انطلاق فعاليات الافتتاح، شهدت منصات التواصل الاجتماعى تفاعلًا غير مسبوق، حيث ظهر ملايين المصريين بالزى الفرعونى فى صور ومقاطع فيديو عبّرت عن شعور جمعى بالفخر والاعتزاز، وكأن الأمة المصرية بأسرها أعادت اكتشاف نفسها من خلال تاريخها. لم يكن الأمر موجهًا أو مدفوعًا بدعاية، بل جاء تلقائيًا من وعى شعبى متجذر يرى فى الحضارة المصرية القديمة رمزًا للهوية والاستمرارية والقدرة على البقاء.
لقد شكّل هذا المشهد حالة وطنية فريدة، استدعى فيها المصريون إرث أجدادهم ليجسدوا معانى الانتماء فى أبهى صورها. وفى الوقت الذى يعيش فيه المواطن تحديات اقتصادية وضغوطًا معيشية ملموسة، جاء التفاعل الشعبى مع افتتاح المتحف الكبير ليعكس جوهر الشخصية المصرية القادرة دومًا على تجاوز الأزمات، وتحويل لحظات الشدة إلى مناسبة للتكاتف والفخر، وليثبت المصريون أن هويتهم ثابتة عصية على التبدل.
إنّ رمزية الحدث تتجاوز الطابع الأثرى والثقافى للمتحف بوصفه أكبر صرح حضارى فى العالم، إلى دلالة أعمق ترتبط بقدرة المصريين على استحضار قوتهم الناعمة وصورتهم التاريخية المشرقة فى لحظات تحتاج إلى الأمل والوحدة. فالمشهد الشعبى الذى رافق الافتتاح لم يكن عابرًا، بل رسالة إلى الداخل والخارج بأن هذا الشعب، رغم كل ما يواجهه من تحديات، لا يزال وفيًا لجذوره، مؤمنًا بعظمة تاريخه، متمسكًا بهويته التى لا تذوب مهما تبدلت الظروف.
لقد أبهر المصريون العالم فى كل المشاهد والأحداث، سواء فى لحظات الحراك الوطنى كما حدث فى ٢٥ يناير ثم ٣٠ يونيو، أو فى المواقف التى تجلت فيها إرادة الدولة والشعب معًا. واليوم، يعيدون التأكيد على هذا التفرد من خلال احتفائهم الطوعى بالمتحف الكبير، فى مشهد يعكس وعيًا حضاريًا يتجاوز الحاضر إلى المستقبل، ويؤكد أن مصر - التى منحت العالم أول حضارة - ما زالت قادرة على إبهاره بروحها الشامخة التى لا تعرف الانكسار.
وهكذا، يثبت المصريون مرة أخرى أن إرثهم العظيم ليس مجرد تاريخ يُعرض فى المتاحف، بل طاقة متجددة تسرى فى وجدانهم، تصوغ ملامحهم الوطنية، وتمنحهم القدرة على العبور من كل محنة إلى أفق جديد من الأمل والاعتزاز بالنفس.
على الدولة أن تستفيد من الحالة الوطنية التى صاحبت افتتاح الصرح الكبير، وتسعى لترسيخ ثقافة الانتماء، وعلاج الأمراض، وترميم الشروخ التى شقت المجتمع فى السنوات الأخيرة، مثل العنف والقسوة فى الانتقاد حتى تحول كثيرون إلى جلادين عند النقد كما حدث مع حفل افتتاح المتحف الكبير، وكذلك إعادة الثقة المفقودة بين الحكومة والشعب، خاصة بعد أن بات المواطن ينتظر مزيداً من الغلاء بعد كل فرحة.